تحليل

لماذا تغييب الضّمير الحي…؟

مصطفى قطبي

يراهن المغرب دائماً على خيرة شبابه الأوفياء، وعلى جهد المخلصين، ويراهن على المساحة الخضراء في نفوسهم المتصالحة مع ذاتها، 'لا يريدون جزاء ولا شكورا' إلا بقدر ما ينجزون، وبقدر ما يعطون الإنجاز عمراً آخر ممتداً، وبقدر ما يؤصلون العمل الصادق، العمل الأمين، العمل المحكوم الذي لا خلل فيه ولا تراخي، وعلى بعد الرؤية التي يتحلى بها من أوكلوا المسؤوليات الجسام، وعلى أنفس تعيش قلق اللحظة، وهدوئها، قلق يستشرف أفق الغد، وهدوء البدء في الخطوة الأخرى ببصيرة أكبر فعلاً، وأشمل مساحة، لتعلي من هامات وطن محب لأبنائه...

ورهان المغرب على كل ذلك معناه تحقيق المزيد من الإنجازات، فالأوطان لا تراهن على خسارة منجزاتها أبداً، وإن تقارب إلى الذهن شيئاً من ذلك، فإن هناك حالة طارئة تتكاتف خلالها كل الجهود للخروج من ذلك، لأن ما تحقق لا يجوز التفريط فيه، والشباب الذين يقودون دفة السفينة، لا شك أن رؤيتهم مكتملة نحو البناء الحقيقي للوطن، ويستشرفون آفاقاً أرحب كلما أتيحت لهم فرصة الإبداع، ومساحة العمل، وواقعهم لا يحتاج إلى مزايدة، وما ينجزونه محل فخر وتقدير.

نعم للمغرب استحقاقاته، كما للمواطن حقوقه، وللمغرب منجزاته، كما للمواطن فعله في هذه المنجزات، وللمغرب ورقته الرابحة، كما للمواطن مساهمته في هذه الورقة الرابحة، وللمغرب صفحاته المشرقة، كما للمواطن ألف تضحية لبقاء هذه الصفحات مشرقة، وللمغرب فضل ذلك كله، كما على المواطن الدور كله. فتوأمة الوطن والمواطن توأمه عضوية لا يمكن الفكاك منها، ولا يمكن التنصل منها، فالأوطان كما قال الشاعر:

وللأوطان في دم كل حر       يد سلفت ودين مستحق.

ولذا لا يحتمل أبدا أن يقوض المواطن، ما يحققه الوطن، ولا يحتمل أبداً أن لا تكتمل صورة الوطن من خلال مواطن لا يعي ما يفعل، ولا يقدر ما سوف تؤول إليه نتيجة فعل ما. فالمواطن المسؤول في أي وظيفة حكومية، إن أدى واجباته بأمانة وبروح من المسؤولية بعيداً عن المصالح الشخصية سعد وسعدت البلاد، أما إذا انحرف عن النهج القويم واعتبر الوظيفة فرصة لتحقيق المكاسب الذاتية وسلماً للنفوذ السلطة، وتقاعس عن أداء الخدمة كما يجب وبكل إخلاص، وأمانة فإنه يكون بذلك قد وقع في المحظور ولابد عندئذ من محاسبته.

وهذا الفهم لا يخرج عن مفهوم وضع المال العام، هذا المال الذي ما إن يبدأ الحديث فيه تنتاب البعض حساسية مفرطة بخاصة الموكول إليهم أداء الوظائف سواء العامة أو الخاصة، فكل المؤسسات ممثلة في أشخاص العاملين بها تزعجهم مسألة المال العام، وينظر ـ عند الحديث عنه ـ بنوع من الريبة والحذر الشديد، ليس لأن في إهدار المال العام انتقاص في المسؤولية الموكولة إلى كل أصحابها كل في مجال اختصاصه، أو صلاحياته بصورة مباشرة، ولكن لأن كلمة المال العام لوحدها قد تفضي ـ عند الحديث عنها ـ إلى محاسبة...

وهذه المحاسبة صعبة، ومقلقة، بل مخيفة، لأن الحساب قد يقتلع الأسس من ركائزها العميقة، وهذا من الصعوبة بمكان، بخاصة عندما تترسخ ثقافة مغلوط في فهمها أن المال العام 'مال شائع'، أو عندما تحدث اختراقات في حقه لا يكون في المقابل رد حازم يتمثل في الجزاء القانوني في حق المتسبب، ربما قد لا تكون هناك مشكلة هذا المال أن حمايته تنضم تحت مظلة القانون، ولكن المشكلة عندما يتم التحايل على القانون...

فالقانون، كما هو معروف، ثوبه مرقع بمجموعة من الثغرات يعرفها المتنفذون، وينفذون من خلالها بكل سهولة، ويسر، في وضح النهار، ولن يوقف هذا النفاذ عبر هذه الثغرات، ولن يقف ضد هذا التحايل إلا الضمير الحي، والضمير الحي، وهو نفسه واقع في مأزق التغييب نتيجة التقادم في إهماله، وعدم الاهتمام به، حتى تكونت حوله حواجز منيعة كثيراً ما يصدم بها مع البدايات الأولى لعمله الموقوت بالفترات التاريخية، ولذلك فمن يحمل ضميره الحي لا يمكث كثيراً إلا أن يواريه في التراب، انعكاساً للواقع في كثير من الأحيان، أو يتراجع صاحبه عن الصدارة، ويعيش في الظل هو وضميره إلى الأبد، وتظل الحياة تسير وفق الطبيعة التي تحقق مصالح البشر منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها.

لا أرسم صورة قاتمة لهذا الضمير، فالحياة ـ في المقابل ـ لا بد أن تعيش وفق توازن الكون الذي يسيره رب العباد، ولكن هؤلاء العباد يغتالون هذا التوازن كلما كانت الفرصة مواتية، وحتى يتوازن الخير، والشر، وتعود الحياة إلى طبيعتها يكون هناك أناس كثيرون قد دفعوا أثماناً باهظة، وربما قد غادروا حياتهم الأولى، وتغييب المال العام واضح في ممارساتنا اليومية، ولا يحتاج إلى شهود عيان، ولن نعود إلى تكرار الحديث عن استغلال المؤسسات الحكومية للأغراض الشخصية، وتسخير المناصب لخدمة الأغراض الذاتية عند كبار المسؤولين، فهناك الأكبر من ذلك، والذي يدفع فاتورته العالية الوطن بأضعاف مضاعفة.

فالقانون هو المعول عليه اليوم لترسيخ ثقافة جديدة في وعي الناس بأهمية المال العام بصفة عامة، والممتهنين للوظائف الحكومية صغيرها وكبيرها بشكل خاص، لأن الإنسان منا ـ بطبيعته الفطرية ـ لا تستقيم أموره إلا من خلال وجود آليات تنظم مختلف علاقاته بما حوله، وبمن حوله، ومن هذه الآليات القوانين المنصوص عليها، والنظم الاجتماعية السارية أيضاً من حيث الالتزام الأدبي الذي يقره الفرد مع من حوله من أفراد المجتمع، ومن خلال إحساسه بأن يشارك مشاركة فعالة في بناء وطنه، بغض النظر عن تنظيم القانون له، بالإضافة إلى الأعراف المتفق عليها، كممارسة بين الأفراد في المجتمع الواحد.

وما يجب التأكيد عليه هنا أن القوانين المنصوص عليها في الدستور ليست منة من فرد، وليست كرم من مؤسسة، متى قرر أحدهما التنازل عنها، أو التغاضي يكون له ذلك في أي وقت يشاء، أو تشاء، بل هي ملزمة بحكم نصوص القانون، وهي واجبة التنفيذ متى أعلن عنها، وأقرتها السلطات الثلاث المختلفة، وبالتالي فالرجوع عن تطبيقها يتطلب السؤال، والمتابعة، والوقوف دونها يتطلب التحقيق... فالمسألة ليس مزاجية، وذلك لسبب بسيط، وهو أنها ليست عرفاً اجتماعياً يؤمن به واحد، ويرفضه الآخر، ونتيجة لهذه الرؤية القاصرة في التعامل مع القوانين من قبل البعض، تأتي مجموعة التنازلات عن تطبيق القانون، والواقع يسجل الكثير من المغالطات الناتجة عن عدم تطبيق القانون، وينسحب ذلك فيما بعد على نمو مستوى الارتباك في الحياة كلها، من خلال تضارب المصالح...

من هنا تأتي أهمية سلطة القانون ودورها في المتابعة لتحقيق المصلحة العامة، فهناك أناس يحاولون قدر الإمكان أن لا توضع قوانين تتضارب مع مصالحهم، ويريدون دائماً أن يكون القانون في صفهم، حتى وإن كان ذلك يصطدم مع مصالح وطن بأكمله، وبكل ثقله المادي والمعنوي، فالجشع المستفحل في نفوس البعض يجعل نفوسهم تدوس كل من على في الأرض، ولا يرون بعداً آخر غير نفوسهم اللاهثة نحو الفوقية، والعلو، والبطر...

والإشكالية الكبرى في هذا الجانب عندما يخرج عن القانون من بيده القانون، ويطوعه لمصالحه الشخصية، أو لمصلحة من حوله، حيث يعد ذلك تعدياً على أمن الدولة ويعرضها تنامي هذا الخروج عن القانون للخطر، ومن هنا يأتي أيضاً ضرورة الضرب على يد من حديد على كل من تسول نفسه الخروج عن القانون، وإن كان في هذا الضرب قسوة على الفرد، فالمصلحة العامة تبقى فوق كل اعتبار.

ما يحدث في كثير من الأحيان أن تسن قوانين، وتدرس ظروف تطبيقها من جميع النواحي، ولكن بعد فترة من الوقت تتناسى أحكام هذه القوانين وتصبح مجرد نصوص لا روح فيها بسبب إهمالها، وعدم تفعيلها على أرض الواقع، لأن الوعي بأهمية تطبيق القانون هو الذي يجعل الفرد يلتزم به ويتشربه، ويؤمن به، أو لا، وهذه مسألة تحتاج إلى توعية مستمرة من قبل الجميع، مؤسسات عامة كانت، أو مؤسسات المجتمع المدني...

فالمغرب لا يجوز أن يغض على خسارة مكتسباته، لأن جل المكتسبات التي يحققها تحتاج إلى عمر كبير من الزمن يمتد إلى أجيال، فالقانون، على سبيل المثال، حتى يصبح ثقافة يحتاج إلى وعاء يحتضنه، وهذا الوعاء هو الوعي العام لدى أبناء المغرب، وحتى يترسخ وعي معين في نفوس الناس يحتاج إلى أكثر من جيل، وعمر الأجيال لا تقاس إلا بعشرات السنين التي تصل، في بعض التقديرات، إلى ما لا يقل عن (25) عاماً للجيل الواحد، فتخيل معي اقتطاع (25) عاماً لتأصيل ثقافة معينة، وتخيل معي في الوقت نفسه أن يأتي فرد من أبناء المجتمع ليضرب بهذا العمر الكبير عرض الحائط لتحقيق مصالحه الذاتية...

فهل يجوز هنا السكوت عنه؟! مهما كان الاعتبار.