فن وإعلام

أميرة السرد ترقص على الورق

سعيد الرضواني

يسالونني كثيرا: هل كتبت القصة تمهيدا لكتابة الرواية؟ فأجيب: لوكنت أعلم قبليا أنني سأكتب في الجنسين معا لكتبت ثلاث روايات قبل أن أكتب قصة واحدة. وأعني القصة وليس مجاميع حكايات يجنسها كتابها بقصص، ذلك أن صعوبة كتابة القصة لا يستشعرها إلا الذين يعلمون أن القصة القصيرة أقرب إلى القصيدة منها إلى الرواية والحكاية، إلا ذوو المجسات المرهفة القادرون على معرفة أن هذا الجنس الأدبي لا يقربه إلا المطهرون من الحشو والإطناب، إلا الراغبون في الإبداع، وليس الراغبين في اجترار العظيم تشيكوف، أو تكرار الكبير زفزاف، أو المتميز يوسف إدريس أو أو أو...

عشر سنوات مضت على لقاء جمعني بالمبدع المتميز والصديق الغالي هشام ناجح في زاگورة المدينة الجميلة حيث يقام ملتقى أحمد بوزفور للقصة القصيرة الذي ينظمه مشكورا نادي الهامش القصصي.

وكنت كلما اشتقت لأميرتي السوداء، أغادر أنا وهشام الفندق، ونمضي لنراقص هذه الأميرة في إحدى مقاهي المدينة، لأن أميرة الفندق لا تجيد الرقص داخل الفنجان، وفي الطريق لابد أن نناقش أميرة السرد: القصة القصيرة. نحتسي قهوتنا فينتقل الرقص من الفناجين إلى الرؤوس، ونغادر المقهى مترنحين وكأننا احتسينا ترياق باخوس، لا نُسغ أميرة الفناجين؛ أميرة السرد/القصة أيضا تُسكر المتيمين بها.

عشر سنوات مضت على تلك اللحظة التي جلسنا فيها على حافة الرصيف المقابل لفندق "رياض السلام" حين أخرج صديقي هشام ورقة وأخذ يقرأ على مسمعي قصة عنونها ب "الدنو من الواحد المتعدد فينا" وأخذت أصيخ السمع أنا الذي لا أجيد الإنصات للقراءات التي تتلى في القاعات المسقوفة وبين الجدران.

أذكر أنني اندهشت وأنا أستمع لهذا القاص الذي مزج في عنوان قصته عنوان قصة "الدنو من المعتصم" لبورخيس مع أيقونة هذا الأرجنتيني المبدع الذي تكتنف كل درره القصصية: الواحد المتعدد. نظرت إلى هشام بعينين تتساءلان كيف استطاع هذا المبدع المتوجس أن يجعل متعددا في عنوان واحد؟. حدقت فيه طويلا فبدا لي متهيبا هذا الجنس الأدبي الصعب، وبدت عيناه تتلهفان لردي على ما استمعت إليه، ولأني في جنس السرد لا أثق في أذنيّ أخذت الورقة وشرعت أقرأ وأرى أميرة السرد ترقص على الورق.

انتصبنا واقفين وعانق جسدي النحيف جسده الأنحف (كنا نحيفين، في ذلك الزمن، وكأن محاولة كتابة القصة تنهك الأجساد وتمتص نسغها لتغذي به جسد السرد)  وباركت إنجازه وقدرته على تطريز قصة رائعة.

شع بريق الفرح من وفي عينيه وكاد أن يرقص رقصة زوربا الشهيرة هو المتيم برائعة نيكوس كازانتزاكيس. حينها عرفت أنني مع مبدع حقيقي سيكبر في القصة، ويظل، هو الذي يرفض النمو، طفلا في الجسد، شأن أوسكار بطل "الطبل الصفيح" لغونتر غراس.

والآن وأنا أرى هذه القصة البديعة تظهر، بعد أكثر من عشر سنوات، ضمن مجموعته القصصية الرائعة "الدائرة التي ابتلعت السيد جون مايجر" والتي قرأت كل قصصها قبل أن تصدر في كتاب، أعلم  أن الرقص الذي انتقل من الفنجان إلى الرؤوس، إلى الورق، قد انتقل، ايضا، إلى الغرفة التي وقف فيها جسدي الآن كأنه جسد طفل، كأنه تحول إلى أوسكار وزوربا في الوقت نفسه وشرع أمام دوروثينا/القصة يعبر عن فرحته رقصا.