فن وإعلام

شارلي شابلن بين سحر الصمت وهوس الصورة

فؤاد زويريق (ناقد سينمائي)
كافح شارلي شابلن طيلة مسيرته الفنية من أجل رسم صورة مغايرة للفن السينمائي الذي كان يعرفه العالم أنذاك، صورة أخرى غيرت مفهوم السينما بمعناه التقني الجامد والمجرد الى معنى آخر اكثر شمولية تتقاطع فيه الرؤى الفنية والتقنية والإبداعية والفكرية...خدمة لأهداف نبيلة انسانية واجتماعية.

عاش شارلي شابلن طفولة صعبة وبئيسة أثَّرَتْ في فنه وأعماله، بل أصبحت هي التيمة الرئيسية لجل أفلامه. تأسست مدرسته الفنية على السخرية بأسلوب كوميدي أنيق جعل من الظروف الاجتماعية القاسية مادته، ومن الشخصيات المتحجرة والمتعجرفة موضوعه، شعر شابلن في بداية مسيرته بتعاطف الناس مع فنه وآمن بقوته التشخيصية وطاقته الإبداعية، استغل هذا الإقبال بذكاء ليصبح فيما بعد من اشهر الشخصيات وأغناها، حتى أن التاريخ السينمائي لم يعرف لحد الآن شخصية مؤثرة كشخصية شارلي شابلن.

ربما كان شارلي شابلن وفيا للطبقة (البروليتارية) -فنيا على الأقل- رغم ثرائه الفاحش، هذه الطبقة التي صنعت مجده ووضعته على القمة، وانتشلته من حياة الصعلكة والتشرد، من خلال إلهامه من واقع عاشه وأحسه. تعاطفت معه وجعلته يجني مكاسب فنية ومالية، استخدمها شارلي شابلن كأداة في أعماله ليقتحم من خلالها عالم الشهرة والمال، تغيرت حياة شارلي وتربع على عرش الأرستقراطية والبذخ لتبقى هذه الطبقة كما هي بلا ماض ولا مستقبل كما وصفها المفكر الفرنسي ''سان سيمون'' .الذنب ليس ذنب شارلي شابلن بكل تأكيد، فالعقدة تكمن في المنقود وعدم قدرته على تحليل شفرة الصورة ومغزاها.

كانت عروض شارلي شابلن ترافقها مظاهرات العمال، واحتجاجات الطبقات الكادحة ضد الرأسمالية المتغولة مستغلين ظروف هذه العروض علهم يحققون بعض المكاسب، فأصبح شارلي بذلك بروليتاريا مناضلا ومنظرا اجتماعيا، رغم كونه المستفيد الأكبر والرابح الوحيد من هذه المعادلة المعقدة، تعددت الآراء في هذا الشأن لكن الكل اتفق على أن شابلن دافع بقوة على قضية نبيلة، قضية أسست لرؤيته الفكرية وتعامل معها على أساس أيقوني وإن كان من منظور فني محض.

هناك من يذهب إلى أن فن شابلن كُتب بلغة ساخرة مهذبة في شكلها، قاسية انتقامية في مضمونها، ايديولوجية يغلب عليها الانتقام اكثر من أي شيء آخر، الإنتقام من طفولته الكئيبة والتي كانت المصدر الرئيسي والملهم له، لا أرى شخصيا حرجا في هذا الاتجاه إن صح، فانتقامه لنفسه انتقام لطبقة بكاملها، ليبقى السؤال المطروح هل حققت رؤيته الفكرية وفلسفته الفنية ما كان يأمل منهما مريدوه واتباعه ؟.

خلقت الصدفة وحدها شارلي شابلن، إذ لعبت مأساة امه دورا كبيرا في اظهار موهبته، وحدسه الفني. كانت امه مغنية و ممثلة مسرحية ناجحة ذاع صيتها في لندن وباقي المدن الأوربية قبل ان تُلقى مجبرة بسبب الظروف التي كانت تعيشها بين ا تون المعاناة و تُجبر على العمل داخل المسارح الرخيصة لتوفير لقمة لها ولابنيها، كانت تؤدي احد العروض فوق خشبة المسرح قبل ان يخفت صوتها بسبب الجهد والمرض والجوع ، كان شابلن يقف وراء الستار، ادرك معاناة والدته فتدخل مستخدما سرعة بديهته وقوة ذكائه لانقاذ العرض، فكانت بداية موفقة لمسيرته الإبداعية. هذا الانتقال من مرحلة إلى مرحلة في حياة شابلن جسد بدون شك أكبر مثال على صدق المقولات المتواترة والتي ترمي إلى كون المأساة تصنع المجد، وعكس وضعية ما كانت لتتحقق لولا الألم والمعاناة اللذان قد نرفضهما متناسين أنهما قد يكونان السبب الأمثل والمحفز الأقوى للنجاح.

ربما السخرية السوداء التي انتهجها شارلي شابلن في تعاطيه مع القضايا الاجتماعية والسياسية لم تنم الوعي لدى الطبقة البورجوازية الرأسمالية بضرورة مراجعة الذات والحفاظ على حقوق العمال وخلق نظام اجتماعي متوازن إذ لم يزدها ذلك الا اتساعا في رقعتها وانتشارا لايديولوجيتها، بينما بقيت الطبقة العاملة على حالها بل زاد بؤسها وشقاؤها.

الحديث عن شارلي شابلن، حديث عن مرحلة تاريخية كانت فارقة في تشكيل خريطة العالم، مرحلة كانت مليئة بالاحداث والأزمات، حيث عاصر الحربين العالميتين الأولى والثانية، فكانت بدايته الابداعية الحقيقية والاحترافية متزامنة مع انطلاق الحرب العالمية الاولى سنة 1914 بفيلم (أطفال يتسابقون في فينيس) الذي شخص فيه شخصية شارلو الصعلوك (The Tramp) وكرسها فيما بعد في مخيلة المتلقي من خلال العشرات من الأفلام الصامتة وهي شخصية شعبية بقيت ملتصقة بشابلن الى الآن. أقول ان هذه الأحداث التي عاصرها شابلن كانت كفيلة بجعل فنه اكثر جدية ودرامية لكنه آثر تجسيد الواقع بالسخرية المفرطة وفي ذلك خروج عن المألوف وخروج عن الصورة الكلاسيكية المتعارف عليها أنذاك، معالجة جديدة خلقت الاختلاف وأسست لنوع مستجد في تفعيل الصورة السينمائية، صورة مرحة تنقد الواقع من خلال الفكاهة الجادة والسخرية السوداء، بعيدا عن دراما الواقع بكل ما تحمله من آلام ومآسي، مفضلا النزوح الى الابتسامة والحركة في اكتشاف الذات السلبية المقهورة الصامتة، وتبليغ رسائل واضحة المعاني عبرها مستفيدا من صمتها، مكتفيا بحركيتها، مستخدما فنا ايحائيا يرشد إلى مكامنها. 

ربما هذا الصمت والإعتماد في الكثير من المَشاهد - ولا أقول كلها – على البانتومايم (Pantomime)، والذي فرضته التقنيات السينمائية في ذلك الوقت، ساعد على تركيز المتلقي بنسبة أكبر على الحركة وجعله يقرأ ما وراء الصورة فكانت بذلك أفلام شابلن بعبقرية صانعيها وذكائهم أداة لخلق الحدث وإثارة الجدل في كل انتاج يعرض.

افلام شابلن الصامتة ربطت المتخيل بالواقع وكرست الوعي التام لدى جمهورها بالانتماء الفعلي لحيز أوسع وأشمل، حيز كوني تتشارك فيه البشرية جمعاء في نفس الهموم الاجتماعية والسياسية والثقافية... فتنتفي بذلك هوية الانسان المصطنعة وتتهاوى حدوده الزمكانية، أفلام ذات رسائل شاملة غنية بالرؤى الفكرية والفلسفية، ساعدت على تبسيط مفاهيمها وانتشارها لغتها الصامتة واعتمادها الكلي على اللغة العالمية المشتركة، لغة الحركة، فكان للمُشاهد حيزه الخاص به يشارك عبره ويساهم من خلاله في تفريغ هذه الرسائل ونقلها بالواضح إلى عالم اكثر واقعية، وهذا ما جعل افلام شابلن تتسم بالجاذبية والفرجة، والاكثر من هذا تخلق الحدث كما قلنا سابقا.

كان شارلي شابلن قيصراً سينمائيا بمعنى الكلمة، كان امبراطورا عبقريا تربع على عرش السينما في وقت كانت فيه الصورة نطفة لم يقو عودها بعد، فاكسبها من خياله وعبقريته الكثير حتى جعلها قوة مؤثرة في زمن كان محتاجا لأي قشة يتمسك بها، كان شابلن متصدرا المشهد السينمائي بشخصيته الابداعية، واصله الإجتماعي، وقدرته التشخيصية، ومواهبه المتعددة حيث احتكر التأليف وكتابة السيناريو والتمثيل والإخراج والإنتاج والموسيقى فكان بذلك شخصية فريدة مكتملة. 

مرت افلام شابلن بمرحلتين، مرحلة السينما الصامتة ومرحلة السينما الناطقة وفي كلتا الحالتين حققت شعبية قياسية مكنته من الاستمرار في سرقة الأضواء.

لشابلن العشرات من الأفلام من بينها "أطفال يتسابقون في فينيس" 1914، "الصعلوك والبنك" 1915،"حياة كلب"1921،"أضواء المدينة" 1931،"الدكتاتور"1940، "العصور الحديثة" 1936...وغيرها كثير لا نستطيع حصرها في هذه الورقة.