فن وإعلام

الفن التشكيلي وإمكانية القبض على العالَم

بوجمعة العوفي*

إذا كان الفن مثلما هو شائع، هو " محاولة للقبض على المُطلَق "، كيف يمكن إذن تدوين هذا المطلق وتقديمه للعين ؟ وهل ثمة حقا من سبيل إلى القبض على العالم وتوصيفه للبصر ؟ هناك مجازفة حقيقية فعلا في الإقرار بهذه الجدلية القائمة بين سؤال الفكر الذي تجسده الرؤية للذات وللعالم، وسؤال الفن المحكوم كغيره من أشكال التعبير في التجارب الإنسانية الكبرى بمطاردة الظاهر والباطن، المُدرَك والمنفلت، العابر والأبدي، الممكن والمستحيل ؟
تبدو الأسئلة هنا غريبة ومتشابكة، مبهمة ومدهشة في نفس الوقت، أو بالأحرى مترددة في تقديم الجواب، فيما لو كان ثمة من جواب أصلا ؟ لكن الغرابة قد تنتفي مؤقتا، لو أعدنا صياغة سؤال المطلق واقترحنا لوجهته سؤال المصير، أي بصيغة الناقد الفرنسي " موريس بلانشو "، حين يتحدث عن " أفُول الأدب ". ومن ثم، يمكن طرح السؤال بشكل آخر: الفن إلى أين ؟ أو ما هو مآل هذا النشاط البشري السابق، ربما، لكل اللغات المستحدثة ؟
بوسعنا إذن، وربما بنفس الخلاصة، فيما يتعلق بالفن، استعارة جواب " بلانشو " نفسه وعرضه للتأمل: " يسير الفن كذلك نحو ذاته، نحو جوهره الذي هو  الزوال، وأولئك الذين هم بحاجة إلى إثباتات عامة جدا، بمقدورهم الرجوع إلى ما نسميه بالتاريخ، سينبئهم بما تعنيه قولة " هيغل " الشهيرة: " الفن بالنسبة لنا شيء ماض" ، تلك القولة المعلنة بجسارة في وجه " غوته Gothe " في فترة الازدهار الرومانسي، وفي الوقت الذي كانت فيه الموسيقى والفنون التشكيلية والشعر تنتظر أعمالا رفيعة.
إن " هيغل " الذي يفتح درسه حول علم الجمال بهذا الكلام الفادح يدرك مغزى ذلك، يُدرٍك بأن الأعمال الإبداعية لن تعيب الفنون، يعشق أعمال معاصريه، يفضلها أحيانا، ( بل يتجاهلها أيضا )، ومع ذلك " فالفن بالنسبة لنا شيء ماض "، ولم يعد الفن قادرا على حمل حاجة المطلق، وما هو أساسي قطعا، بعد الآن، هو إنجاز العالم، رصانة الفعل ومهمة الحرية الحقيقية، لا يكون الفن قريبا من المطلق إلا في الماضي، وفي المتحف وحده ما تزال له القيمة والقوة، أما النكبة الأكثر خطورة، فحينما يتدنى فينا إلى حد أن يصبح مجرد متعة جمالية بسيطة أو ملحقا بالثقافة، (…) ظاهرا، لا تكون للفن قيمة إن لم يكن ساميا، ومن ثم، عسر الفنان في أن يكون أيضا شيئا مهما، في عالم يرى فيه نفسه لا مبرر له ". (1)
إن الفن بهذا المعنى، كي يُنجِز ديمومته، يشترط سمو الأعمال، وسمو الأعمال رهين بسمو الروح المُنتِجة لها، إن الفن باعتباره أثرا للروح و" نتاجا لها " هو بالمثل تجربة وجدانية بالأساس، جمال مضاعف لإفرازات الذات وسموها عمَّا هو موجود أصلا في العابر والظرفي، لا يحاكي الطبيعة وينسخها بقدر ما يتماهى بالقوة الخالصة لفعل الإبداع ليصل مرتبة الخَلْق.
لقد كانت ثمة دائما خلف المشاريع الفنية العظيمة أفكار كبرى وأحاسيس سامية تحركها نحو مجاوزة الزمن وتثبيت أسئلة العالم والذات في العمل الفني ولغته. يقول الشاعر " غيوم أبولينير Apollinaire " عن تجربة " براك Braque "، أحد أقطاب التكعيبية في الرسم: " عند براك، يتناسق الترميق الحرفي بإحساس السمو الذي يمَكِّن الإنسان من ترتيب الخواء " ــ مضيفا كذلك عن نفس التيار الفني: " إن ما يميز التكعيبية عن فن الرسم القديم هو أنها ليست فنا للتقليد، بل فنا للإدراك، يجنح نحو الارتقاء إلى مرتبة الخَلْق ".( 2 )
يكتب " هيغل "، بصدد ذلك أيضا في مبحثه الهام حول علم الجمال : " إن الجمال الفني يستمد تفوقه من كونه يَصدُر عن الروح، وبالتالي عن الحقيقة، بحيث إن ما هو موجود لا يوجد إلا بقدر ما يدين لوجود ما هو أسمى منه، ولا يكون ما هو كائن عليه، ولا يمتلك ما يمتلكه إلا بفضل ذلك الأسمى، إن الروحي وحده الحقيقي ". ( 3 )
يأتي العمل الفني إذن من الروح ويُوجَد للروح. وما القصد هنا من بينية الفعل الإبداعي ؟ أو بصيغة السؤال الفلسفي لـ " هيغل " دائما: " لماذا يخلق الإنسان أعمالا فنية " ؟
ثَمّة من دون شك داخل الكائن البشري حاجة غريزية ونوازع خاصة تدفعه باستمرار إلى مجاوزة معطيات العالم الخارجي وأشيائه الناجزة تماما، لا يَقبل الإنسان بما يشترك فيه مع الطبيعة من صفات، ويحاول دائما أن يخلق لنفسه حاجته المثلى لإعادة خلق الذات وكتابتها أو تصويرها من جديد، يطمح فعلا نحو تخطي المنصرم وولوج الأبدي، من خلال ذلك الفعل- اللحظة التي تحفر توقيعها في الزمن وفي التاريخ، في الذات وفي المرئي، إنها اللحظة المتواصلة، المرصودة ضد الفناء، لحظة المبدع في اختراقه لشرنقة الوقت وسيرورته القاتلة، إنها بمعنى أوضح : " استراتيجية رهيبة لمقاومة انسيابية الزمن وتسلسلاته الحتمية، صمود في وجه التفكك المأساوي للعالم المادي ". ( 4 )
وحين كان الرسام " جيمس مكنيل ويسلر " بصدد رسم الشاعر الفرنسي " منتسيكو فيزنساك " خاطبه قائلا: " أنظر إلي قليلا وسوف تنظر أبدا "..  " الأبد هو الدوام، هو الخلود العالق بالإبداع الفني ". ( 5 )
 ( * ) شاعر وناقد فني / أستاذ جامعي
إشارات :
1 ـ  موريس بلانشو : الأدب إلى أين ؟ ـ ترجمة بوجمعة العوفي ـ الملحق الثقافي لجريدة " العلَم " ـ السبت 4 ماي 1996.
2 ـ  بيتر ريد Peter Read  ـ الثورة التكعيبية : ماغازين ليتيرير ـ نونبر 1996.     
3 ـ  هيغل ــ المدخل إلى علم الجمال. ترجمة جورج طرابيشي ـ دار الطليعة ـ بيروت.
 4ـ  بيتر ريد ـ مرجع سبق ذكره.
5 ـ  صدوق نور الدين : الإبداع بين الشعر والتشكيل ـ مجلة " الكرمل ".