ومع التطور الذي تعرفه الحياة بتشعباتها الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية والسياسية وبخطوات متتالية ،لم تعد الثقة في صورتها الخام brute (الحسية، والاخلاقية). كافية لضمان التعايش المجتمعي، الضروري لكل تنمية مستحبة، وبالتالي فككل المفاهيم ذات الحمولة القيمية، فقد ابدع الفكر البشري في هندسة منظومات واليات توافقت عليها المجتمعات الحديثة ساهمت في عصرنة مفهوم الثقة حتى تبقى هذه الاخيرة قوة وطاقة force et énergie اجتماعية وجماعية بدونها لا يمكن ان تتحرك عجلة التنمية.
اليست التنمية مبرر الوجود وغايته وشرط استمرار الحياة؟
ولهذا فبقدر ما هيكل المجتمع نفسه ونظمه -في مؤسسات سواء اجتماعية (الأسرة) أو إدارية (مرافق إدارية ) أو اقتصادية (المقاولة في تعدد اشكالها) أو سياسية (حكومة وبرلمان وأحزاب ونقابات)- بقدر ما ابدع الفكر البشري صيغا جديدة لملائمة هذه المؤسسات مع صيغ الديمقراطية ومفهوم المصلحة العامة والمشاركة في الحكم والتدبير، وتعميق مجالات حقوق الإنسان، وترسيخ الشفافية وتطوير الحكامة الجيدة مع تنويع مؤسسات الوساطة الكفيلة بتنظيم السوق، وبتجاوز الاحتقان الاجتماعي والسياسي، ما دام انه من الطبيعي في حياة أي مجتمع مصالح الناس والعباد تختلف وتتعارض.
وفي هذا السياق تَجَبَرَ وعَضُمَ مفهوم الثقة وتطور من ضابط اخلاقي ومعنوي إلى ميكانيزمات ومنظومة كاملة قابلة للقياس والتقييم بباروميترات baromètres متداولة بمراكز البحث والتفكير في العالم، قاسمها المشترك، أن دمقرطة المجتمع والدولة ترفع من منسوب الثقة بين الأفراد والمؤسسات بكل انواعها.
وعليه فبعد هذا البناء النظري المتوافق عليه. سأحاول مقاربته وقياسه على واقع بلادنا الاجتماعي والاداري والاقتصادي والسياسي.
وهكذا ففي الوقت الذي وُجِدَت فيه الادارة لخدمة كل المتعاملين معها من المرتفقين، ففي ادارتنا يسود شعور عام هو أن كل مرتفق قصد الادارة فهو محط شبهة أما بالغش أوعدم الصدق في اقواله وافعاله وعليه ان يثبث بالوثائق العكس.
في حين أن الإدارة الحديثة في العالم اثبتت فعاليتها ونجاعتها بالمراقبة البعدية وليس بتعقيدات مساطر والعرقلة القبلية .
وبالتالي فمن الطبيعي أن يبادل المواطن الإدارة نفس شعور الشك والريبة وعدم الثقة. -فالثقة عملية ثنائية وتقابلية كرقصة Tango لا تستقيم الا باثنين -. ولنا ان نتخيل ما هو حجم المبادرات الايجابية والاصلاحات المهمة التي تقوم بها الإدارة العمومية في مجالات عديدة ،لكن رغم ذلك فباروميتر الثقة يكاد يتزحزح ليعود إلى مكانه ،حتى اصبح المواطن عندما يحصل على وثيقة إدارية بشكل عادي أو عن طريق الرقمي تجده يتشكك في حجيتها الادارية، وعند عودته الى منزله يضعها الوثيقة فوق التلفاز أو الثلاجة، وهو غير مطمئن على جدواها وذلك لعمق الشك والريبة في تطور الإدارة.
ولعل ما يعمق هذا الاحساس كذلك فبِحَرَمِ نفس الإدارة وبمرافقها يخيم جو من الحدر بين الرؤساء والمرؤوسين، مما يعطل بشكل مطلق كل مبادرة فردية أو جماعية. ويتحول بذلك العمل من متعة إلى محنة ونقمة.
أما إذا كان المتعامل مع الادارة فاعلا اقتصاديا أو مستثمرا محتملا خاصة الصغير والمتوسط فعوض النظر إليه والتعامل معه باعتباره منتجا للثروة-لان الادارة في اخر المطاف ليست إلا مدبرة للثروة -فمع الاسف يُنظر للمقاول، وكأن مصدر رأسمال مقاولته مشكوك فيه وان أرباحه ريع، وبالتالي فلجوءه الى الادارة، هو للتحايل عليها وللحصول على امتياز. ماعدا ذلك عليه أن يثبت العكس .نفس الشعور يحمله المقاولون ورجال الأعمال اتجاه الادارة .فكلما كان الحديث بين رجال الاقتصاد عن الإدارة والموظفين فلسان حالهم واحدٍ " الادارة بين راشٍ وَمُرْتشي الا من رحم ربك" بتعبير أحد وزراء العدل بالمغرب عندما فوجىء بسؤال عن قطاعه وهو حديث التعيين فيه.
فهل الوضع بكل هذه السوداوية ببلادنا؟ أكيد لا وأن الصورة مبالغ فيها لكن هذا هو الانطباع العام الذي يعمقه انعدام الثقة كقيمة معنوية ومحورية.
وفي الاخير أود أن اشير إلى الدراسة التي أعدها البروفيسور لويجي دجيغاليس واخرين وخلصت إلى " أنه حيثما تنشأ مشاعر الثقة وتقوم على أساس متبادل في السياسات والمؤسسات والأنظمة، ستتمكن الاقتصادات من تحقيق مزيد من الإنجازات.
ولكن عند نضوب مشاعر الثقة، أي عندما يصبح الاعتقاد السائد لدى الناس أن "النظام " système لا يعبر عن قيمهم، وأنه لم يعد يعمل لصالحهم، سينخفض مستوى أداء الاقتصادات. “
وعليه، إذا كان هذا هو الحال في ادارتنا وقضائنا ومقاولاتنا فماهو الوضع في الوسط السياسي ببرلمانه وحكومته وأحزابه ونقاباته. ذاك ما ساحاول تناوله في فرصة اخرى .