تحليل

من المؤسف أن تتراجع النخب للوراء وتترك الأمور تدبر بالتافهين

ميلود بلقاضي ( أستاذ جامعي/ باحث في الخطاب السياسي)

يعيش مغرب اليوم أوضاعا صعبة يغيب فيها النقاش العمومي العميق والمسؤول حول مواضيع الساعة المتعلقة بالقضايا والتحديات الحقيقية التي تواجه البلاد في سياق وطني مفتوح على كل الاحتمالات، وسياق إقليمي ودولي مضطربين.

ويعود غياب هذا النقاش العمومي العميق والمسؤول لأسباب عديدة معقدة من أهمها: تخلي النقابات والأحزاب السياسية عن مهامها الدستورية والسياسية، استقالة النخب وتراجعها للوراء، انكماش الجامعات، وتحول الإعلام الوطني لإعلام الإثارة أو البوز.

وأمام هذا الفراغ ،هيمنت التفاهة والرداءة وظاهرة المؤثرين بشكل رهيب على كل الفضاءات العمومية، الأمر الذي أصبح يهدد مغرب اليوم ومغرب الغد.

وحسب عدد من الباحثين، فتراجع الأحزاب السياسية والنقابات وصمت النخب في المغرب أصبح ظاهرة مخيفة، بعد عجزها عن مواكبة التحولات والتحديات التي يعرفها المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي بالبلاد; وتخليها عن مهامها التأطيرية والتنويرية والتوجيهية.

 تحولات ومتغيرات متسارعة، تؤطرها ثورة تكنولوجية مدهشة حولت العالم لقرية صغيرة، اخترقت فيها الحدود الجغرافية والرقابات المؤسساتية.

أسباب عديدة كانت وراء تراجع الأحزاب السياسية في القيام بأدوارها الدستورية والسياسية والاجتماعية منها: فقدانها شرعيتها ومشروعيتها مما أفقدها احترام المواطن وثقته، يُعزى هذا الفقدان إلى عدة عوامل، بما في ذلك تحولها لدكاكين انتخابية فقط، وتخليها عن أدوار التأطير، وضعف ديمقراطيتها الداخلية، وتهميش الكوادر وتفضيل الأعيان وأصحاب المال، التعايش مع كل أشكال الفساد، عدم الوفاء ببرامجها الانتخابية، وعجزها تقديم حلول فعّالة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها المواطنون، إنه موت السياسة.

إضافة الى تصدعاتها وانقساماتها، وتضييع الوقت في تدبير أزماتها وانقساماتها الداخلية على حساب تدبير السياسات العمومية وتأطير المواطن.

نفس الشيء نقوله عن النقابات، حيث يمكن أن نفسر تراجعها - أيضًا- بعدة عوامل منها: فقدان الثقة في قدرتها على تمثيل مصالح العمال بشكل فعّال، كون تحولات سوق العمل تجعل من الصعب على النقابات تحقيق مكاسب كبيرة لأعضائها.

مع الإشارة لبطش وتسلط الباطرونا التي يقيّد من قدرتها على العمل بحرية وفعالية، رغم الصلاحيات الموسعة التي منحها لها دستور2011.

أما بالنسبة لتراجع النخب في المغرب، فقد يكون هذا جزءًا من ظاهرة أوسع تتعلق بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية، وقد يكون هناك تحول في نظام القيم والثقافة السياسية يقلل من دور النخب كطبقة فاعلة في المجتمع، أو قد تكون هناك تحديات اقتصادية تجعل من الصعب على النخب تحقيق نفس النفوذ والثراء الذي كانت تتمتع به في السابق.

من المؤسف أن تصاب النخب بالصدمة ، وتتراجع للوراء ، وتترك الامور تدبر بالتافهين ، في  ظروف ما احوج فيها المغرب للنخب لتوجيه الراي العام والدفاع عن القيم، وتنوير الراي العام ، والتفاعل مع القضايا المجتمعية والسياسية بمفهوم غرامشي.

مغرب اليوم يعيش وضعا صعبا، تراجعت فيه ادوار الأحزاب والنقابات، واستقلت فيه والنخب، بعد ان  اصبحت عاجزة عن مواكبة تحولات وتحديات المشهد السياسي والاجتماعي.

أمام هذا الوضع، يظهر مدى القلق والاستياء الذي يمكن أن يشعر به المواطن تجاه تراجع الأحزاب والنقابات والنخب في المغرب، حيث أصبحت التفاهة والرداءة تغزو كل شيء، بسبب:

-  تحول المؤسسات السياسية والاجتماعية إلى مصدر للفساد، وافتقارها لأبسط مقومات الشفافية والحكامة والديمقراطية الأمر الذي يفقدها مصداقيتها، ويفقدها ثقة المواطن فيها.

- تشتت الأحزاب والنقابات والنخب وانشغالها بتدبير صراعاتها الداخلية، إذ  لا تستطيع تقديم خدمات فعّالة للمواطنين وتفقد دعمهم.

- عدم مواكبة هذه المؤسسات التطورات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية التي يعرفها المغرب وفهمها، مما يفقدها الفعالية والقدرة على تلبية احتياجات المجتمع، والتفاعل معها بشكل سريع ومرن.

- تراجع قيم الوطنية والمواطنة والحس الديمقراطي عند هذه المؤسسات يحولها مؤسسات المصالح والتموقعات والزبونية والفساد.

لذا نقول إن موت الاحزاب السياسية والنقابات، وتراجع أدوار النخب الطلائعية، وسقوط الإعلام في مصيدة البوز يهدد مغرب اليوم ومغرب الغد، وهو الأمر الذي أصبح يتطلب تدخلًا سريعا وجادا وصارما من الدولة والحكومة والمجتمع المدني لتعزيز الشفافية، وتقوية المشاركة المدنية، ومكافحة الفساد، وتعزيز التعليم والوعي السياسي بين المواطنين، وترسيخ قيم المواطنة والوطنية فيهم، لوضع حد لزمن التفاهة والرداءة اللتان تهيمنان على المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي والاعلامي في المغرب.

هيمنة الرداءة والتفاهة يعني أن كل شيء أصبح قابلا للبيع والشراء، “كما قال الكاتب عبد العزيز كوكاس بدءا من الإله وملائكته وجنته ونيرانه ومساجده وكنائسه ومعابده، مرورا بالهويات والمقدسات والقيم والأخلاق.. نحن في المراحل المتأخرة من بيع كل شيء”.

إننا نعيش زمن تسيّد التافهين والرديئين، وأن هؤلاء كما قال كوكاس في احدى مقالاته: “لا لون لهم ولا حزب يوحد خطابهم، ولا هدف لهم سوى الحظوة الآنية لا الخلود، الربح السريع بأقل تكلفة لا العمل المنتج، التسطيح لا العمق، الإثارة لا التبليغ والإفهام… إنهم كسالى يعتمدون قانون الجهد الأقل، لا يهمهم تحقيق تراكم في المعرفة ولا توعية الناس ولا ترك أثر يترحمون عليه”.

يقول ALAIN DENEAUTL أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة مونتريال بكندا، المنظر بحق لما سماه نظام التفاهة في كتابه الشهير “la   médiocratie”: “ينزل الفيلسوف سِيلْس Celse منزلة تافهة، لكن الكبار يطيقونه: هو ليس بعالم، لكن له صلة بالعلماء؛ لا حظوة له، لكنه يعرف أشخاصا لهم من الحظوة الكم الغفير؛ إنه غير حاذق، لكنه يمتلك لسانا قد يصلح ترجمانا، ورِجلين تستطيعان حمله من مكان إلى آخر”. حينما صاروا سادة، فإن أمثال سِيلس هذا العالم لم يعد لهم ما يقلدونه سوى أنفسهم، إنهم يكتسحون السلطة شيئا فشيئا وتقريبا في غفلة منهم. من شدة التحكم والمحسوبية والمجاملة والتواطؤ صاروا على رأس المؤسسات.''

وقد فكك هذا الباحث المجالات التي تعزز سطوة “الميديوقراطية” أو نظام التفاهة في العالم اليوم، حيث يهيمن الجهلة وأنصاف المتعلمين، ويصبح المثقفون فاشلون وانعزاليون، ويطفو إلى السطح البلهاء والسطحيون، ومن توفرت لهم مواهب “اللحظة الطائشة”، والقدرة على جاذبية الذباب في كافة المسارح، من السياسة إلى الاقتصاد فالإعلام.. أن تغرق الإنسان في أوحال التفاهة وأن تجعله ساعيا إليها بكل حرص ودأب دون وعي.