قضايا

حديقتنا الخربة

يونس الخراشي

ما حدث قبل مباراة المغرب التطواني والرجاء الرياضي، عن مؤجلات البطولة الوطنية لكرة القدم، يستحق وقفة. فقد اختلف الناس حول الأصح، هل الإقرار أم التأجيل، دون أن يقفوا عند الأهم، وهو صحة اللاعبين الجسدية والنفسية، ومشاعرهم قبل وأثناء وبعد المباراة.
ما الذي حدث بالضبط؟
كل ما في الأمر أن المباراة، التي كان مبرمجا لها أن تجرى في ملعب سانية الرمل بتطوان، مساء الأربعاء 05 غشت، سبقها الإخبار بإصابة لاعبين اثنين من لاعبي الفريق المستقبل بفيروس كورونا. ثم انطلقت المواقع، وصفحات "السوشل ميديا"، ورسائل الواتساب، وحتى بعض الإذاعات الخاصة، في التسابق؛ حد التراشق، بالحديث، مرة عن الإلغاء، وأخرى عن الإقرار، وغيرها عن التأجيل، وفي مرة عن فرض الحجر الصحي على لاعبي المغرب التطواني، وهكذا، إلى أن أعلن الحكم بداية المواجهة.
ولكم أن تتخيلوا كيف عاش لاعبو الفريقين، ومسؤولوهما، وبخاصة لاعبو الفريق التطواني، تلك الساعات التي سبقت المباراة، وسط أجواء قاسية، وصاعقة، وسط الترقب، والتهيؤ، والتخيل، وشد الأعصاب، والتوقع، في انتظار أي جديد يخص صحتهم أولا، وصحة زميليهما، ثم مصير المباراة، التي لا شك أنها صارت، في تلك الأثناء، آخر همومهم. فهل يعقل أن ينشغل "المخالط" ومن سيلاعبه، مرغما، بشيء غير مصيره المحتوم؟
وقد كان مفهوما أن يتساءل الجمهور عن الخبر اليقين. فالمباراة مهمة جدا بالنسبة إلى الفريقين معا، إذ أن نتيجة إيجابية للتطوانيين كانت ستجعلهم يتقدمون في الترتيب إلى الأعلى والأهم، ونتيجة إيجابية للرجاويين كانت ستمنحهم فرصة مزاحمة غريمهم الوداد في المقدمة (التصدر مؤقتا)، في انتظار ما ستؤول إليه النتائج المتبقية. غير أن الخبر في زمن كورونا لم يكن متاحا بسرعة وبدقة. والدليل يمكن الوقوف عليه بالرجوع إلى المنشورات الكثيرة على المواقع الإخبارية وصفحات "السوشل مييديا" والإذاعات الخاصة، حيث استمر القيل والقال إلى أن بدأ اللقاء. وأي لقاء هو؟
الذي لم يكن مفهوما بالمرة هو الانتهاء بالمباراة إلى تكرار مهزلة "القائدة في الملعب". فقد تبين، من خلال التضارب، أن هناك جهة تأخذ بعين الاعتبار تطور الوضع الوبائي في المغرب، وتريد بوضع لاعبي المغرب التطواني في الحجر الصحي أن تعطي صورة عن التعاطي الصارم مع التفشي، في وقت ترى جهة أخرى أن أي تأجيل للمباراة أو إلغاء من شأنه أن يهدم ما بنته من برمجة، وترتيبات، لإنهاء الموسم، وبالتالي إعلان فشلها في تدبير الأمور؛ حتى وإن كان اللعب سيطرح تساؤلات كثيرة، لعل أبسطها :"ما الفارق بين مباراة تطوان ومباراة تمارة، حيث دخلت قائدة بالزي العسكري إلى الملعب، ومنعت إجراء المواجهة، حفاظا على صحة اللاعبين، والناس أجمعين؟".
يمكننا أن نهضم ما حدث مساء الأربعاء، بفعل وجود متدخلين كثر في الواقعة، فضلا عن تشابك وتعقد الظرفية المحيطة بالمباراة. غير أن الذي لا يمكن استيعابه، هو المخاطرة بصحة اللاعبين ومن معهم. ففي كل الأحوال، فقد ثبت، رسميا، أن لاعبين اثنين من المغرب التطواني أصيبا بالفيروس، وصار زملاءهم يعدون، نتيجة لذلك، من المخالطين المتوجب أن يخضعوا للحجر. ولم يكن ممكنا، بأي حال، ضمان سلامة الباقين، في حال إجراء المواجهة، من العدوى.
والدليل المادي الملموس على ما سبق، أنه تقرر إجراء تحاليل مخبرية لكل اللاعبين حال نهاية المواجهة. وهو ما حدث بالفعل، إذ أجريت تحليلات للاعبي المغرب التطواني، بالملعب، في وقت أجريت تحليلات للاعبي الرجاء، بالفندق. ولكم أن تتخيلوا، مرة أخرى، كيف بات اللاعبون، ومن معهم، ليلتهم تلك. وأي هواجس مست مشاعرهم، وأي خدش أصاب نفسياتهم، وهم ينتظرون النتيجة. وبالقطع، فجميعهم نسي نتيجة المباراة. لأنها لم تعد تهم في شيء. فالأهم هو البقاء على قيد الحياة، وبصحة جيدة. في وقت، نسي الأغلبية منا مصير اللاعبين، ومن معهم، ومشاعرهم ونفسياتهم وصحتهم، وظل يفكر في سبورة الترتيب، والنتائج المقبلة، ومن سيربح اللقب. يا للبؤس.
وبعيدا عن الأسئلة التي قد تطرحونها اللحظة وأنتم تقرأون، وتخص كل هذا "العبث" المرتبط بإجراء مباراة في كرة القدم، فإن الذي يتعين الانتهاء إليه شيء واحد، وهو إعادة النظر في الشأن الرياضي كله، بحيث يخضع لميثاق جديد ينتظمه، ويكون فيه الأساس المتين هو صحة اللاعب (منظمة اليونيسكو تستعمل مصطلح اللاعب عوض الرياضي). ذلك أن نظام السوق، الذي أرساه الأمريكيون، وبخاصة في رياضة "السوكر" (الكرة الأمريكية)، وأخذ به الباقون، لغرض جذب رؤوس الأموال، والفوز بالأسماء الموهوبة، وإرضاء الجماهير، أفضى إلى مآس فظيعة، قد لا ينتبه إليها الكثيرون، ولكن الضمير الرياضي سيبقى محتفظا بها إلى الأبد.
الرياضة ليست مجرد تنافس للفوز بشيء ما. إنها أشبه بحديقة سحرية يدخلها الناس كي يستشفوا من أمراضهم الاجتماعية والنفسية، وليتعلموا حسن الأدب مع الغير، وصيانة النفس من الأذى. ولأن العالم صار يمشي على رأسه، فقد أصبحت الرياضة اليوم، ويا للأسف، أحوج من غيرها بأن تلج إلى الحديقة؛ الأصل / المرآة، حتى تستشفى مما علق بها من أمراض الناس، ومخلفاتهم البئيسة. هذه ضرورة ملحة، هنا والآن. غير ذلك، ستنزاح الرياضة، يوما بيوم، عن حقيقتها، لتصبح، بفعل الصراعات التي تدار حولها، مجرد "خربة" كانت يوما ما حديقة. وسيتحسر عليها الجميع، إلا الذين يفكرون في تحويلها إلى شيء ينفخ أرصدتهم، ويقولون لك بلا حياء:"من أجل الرياضة".
أخيرا، فجماهير المقاهي، المحتشدة بلا مدرجات، وبلا تباعد، وبلا كمامات، وبلا تحاليل، تحييكم، وتنتظر بقية المباريات على أحر من "الحجر". لا أعاده الله.