رأي

محمد يسن: التقاعد

ذات صباح، دون احتساء قهوتي الصباحية، أخدت مقعدي بقاعة فسيحة للصندوق المغربي للتقاعد لأجل الحصول على بعض الوثائق الادارية، كان الرقم 66 هو ترتيبي في الزيارة....

 قلت في نفسي لا بأس من الانتظار - رغم كرهي المقيت لكل أصناف الانتظار التي قد تأتي بخير وقد لا تأتي- تجولت بعيني بين رواد القاعة...استحسنت اليافطات الإليكترونية التي استأثرت بالنداء على الأرقام تباعا، والمصنفة بحروف أبجدية بحسب المراد من الزيارة...نبهتني "أَنَايَ" المتمردة محتجة على كونها أصبحت رقما وليس هَوِيَّة مكتملة العناصر، طمأنتها بأن الأمر أصبح عاديا منذ دخلت وإياها زمرة المتقاعدين...

محاربون من كلا الجنسين، وحد بينهم -مع وجود بعض الاستثناءات -بياض الشعر، والتقدم في العمر، منهم من استوطنت يده "عكازة "صارت جزءا منه ،ذكرتني تلك الآلة بلغز لم نتمكن في ألعاب الطفولة من حله، حين يسألنا الكبار: من الذي يمشي على أربع ثم على إثنين ،ثم على ثلاثة...

تنهدت وقلت في نفسي، أحمد الله أنني لازلت في غنى عن الرجل الثالثة، ولازالت قوة التحمل وفورة الشباب ترافقني بعد تجاوز السادسة والستين...

انتبهت لرقم 66 على بطاقة موعدي، هالني الرقم لأنه صنو لعدد السنين التي رحلت في غفلة مني، سكون مطبق داخل القاعة وكأن الطير على رؤوس الجميع، لا تسمع شيئا باستثناء المنبه الآلي الذي يسجل الأرقام على الشاشة بلون أحمر مرافقة لصوت رنين، هو رنين يتزامن أحيانا مع تنهدات عميقة تسمع من هنا وهناك لها أكثر من دلالة ،أو زفير متقطع لأحدهم وكأن "سيدنا عزرائيل متربص به" ، او قول بعضهم" أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم" وكأنه يحمل ثقلا وازنا... سعال من حناجر استوطن البعض منها الطباشير ،اكتاف غير متوازية بفعل الكتابة على السبورة أو تصحيح أطنان من التمارين المدرسية، أو عمل كان يستدعي جُهْدا جَهيد....منظر زادت من غرابته النظارات الطبية الميسرة للرؤى ذهبت قوته مع "التركيز " على العمل أو لنقل على بطاقات التقويم وتهييء الاختبارات وما شابه ذلك...

شريحة من الأطر التربوية والإدارية أفنت عمرها في توسيع رقعة المعرفة بهذا البلد الحبيب، أعطت الكثير ولم تأخذ إلا النزر القليل...

أحالني المشهد على صدفة جمعتني ذات عطلة بشلالات "أوزود " مع ثلة من المتقاعدين الاجانب، بنياتهم قوية ولباسهم رياضي انيق، عرباتهم من نوع المنازل المجهزة المتنقلة، تجادبنا أطراف الحديث بعد رفقة وجيزة في منعرجات المكان، قال لي أحدهم: إننا نعيش عمرنا الثالث "on vie nôtre troisième âge "...قلت في نفسي غاب عنا عيش العمر الواحد وأحرى ان نعيش العمر الثالث...أدركت أنهم رمز لدولة تحترم مواطنيها. تراهن على العنصر البشري حتى في أيامه الاخيرة، تهيء له سبل العيش الكريم تكريما وعرفانا لما قدمه لوطنه....ونحن هنا على مسافة الوطن ، تتلقفنا شركات السلف والتمويل حين نخرج من القاعة متأبطين ببيانات الخدمة والأجر، لتجهز على آخر قسط متبقى من " حوالة التقاعد" ، أدركت حينها أننا أصبحنا رمز ل ول ول ول.........

تذكرت قولهم، عبر وسائل التواصل، عما أصاب صناديقنا من نذوب وثقوب، متنوعة تسربلت عبرها ميزانيات وميزانيات ... حاولت السؤال عن أسباب النزول لتلك الثقوب عبر مختلف "الصناديق" اجابتني العلبة الصوتية لهواتف القيمين على الشأن العام، تلك الهواتف الأكثر ذكاء، والتي لم يؤدوا حتما حتى ثمنها، قائلة: "مخاطبكم مشغول الان بتدبير أموره الخاصة وتفقد شركاته وحسابات البنكية المتعددة هنا وهناك، والحرص على الحصول على الجنسيات، فضلا عن امتلاء علبها الصوتية برسائل الحب والغرام ومختلف الوساطات هنا وهناك....

لم يخرجني من كهذا نفق سوى يد على كتفي تقول انه الرقم 67, كانت المسافة بين الرقمين (66 و 67 ) مسافة الوطن من طنجة إلى لكويرة...غادرت القاعة وفي نفسي شيء من حتى المتقاعدين.