رأي

عبد العزيز سعدي: فقهاء آخر الزمان

لا أقصد بعبارة "آخر الزمان" الانتقاص من هيبة فقهاء تخلفوا عن ركب الحضارة، أو أتوا بفعل شنيع اِستوْجَب التقريع. كلُّ ما في الأمر أن لِي شيوخا نبَغوا في جيُوسِياسة آخر الزمان؛ لا يخْلفون الموعد مع التاريخ إلا ليسبقونا بسنوات ضوئية؛ يَرْجعون بك إلى الجاهلية في رمشة عين، ثم يَطيرون بك إلى آخر الزمان دون أن يرفّ لهم جفن؛ يعيشون معنا بأجسادهم، لكن عقولهم في سباق ضد الساعة، تستطلع علامات الساعة؛ كيف لا وهُم يَتنقلون بخِفّة عجيبة، يتأرجحون بين اقتباسات خاطفة من أساطير الأوّلين وتسريبات حصرية من زمن الآخرين. رغم أن المسافة عندهم تُقاس بمسيرة يوم، فهُم يحلِّقون من أول الزمان إلى آخره في رحلات مباشرة، تقفز على الأمكنة وتطوي الأزمنة، كما الحَكَواتي في حلقات الأيام الخَوالي. والسِّر في ذلك أنهم يتفاعلون مع قضايا عصرية بإقحام أمور غيبية، في غاية المطّاطية والانسِيابية. فما هي إلا روايات مُسْندة إلى الخرافة أو آثار أقرب إلى السخافة؛ هكذا يقُصّون ما سُطّر في الكتب الصفراء ونُسب إلى العقيدة السمحاء.

لقد غاص فقهائي في وصف علامات الساعة واختلفوا في ترتيبها؛ والأرجح عندهم أن ظهور المهدي المنتظر هو أول أشراطها. فقد مُلئت الدنيا ظُلما وانتشر الهلع بين الناس وتفشَّى الوباء والفساد، وصار من أعظم القُرُبات وأفضل الطاعات استعجالُ فرَجِه وتهييئُ الأرض لاستقباله، ليكون إماما يتولّى الزعامة إلى يوم القيامة. وأدرك أهل العِلم برؤيتهم الاستباقية أن المسيح الدجال بدأ يُطل برأسه الضخم لينشر الضلال، حيث معه جنة ونار وبأمره تسقُط الأمطار. لم أسْألهم عن حجمه، لكنهم أسَرّوا لي بأن أُذُن حماره تكفي ليسْتظِلّ بها سبعون ألفًا من الناس، يا لَلْهول؛ وعن اختياره لهذا التوقيت بالذات قالوا إن لِآخر الزمن علامات ولِفتنة الدجال مُقدمات، ولم يبقَ مِن الدنيا قدْر ما فات.

همستُ في أُذن أحد فُقهائي مستغربا: لقد قرأتُ في كتبكم أن آخر حرب ستكون في الشام بالسيوف والنِّبال، فهل الصناعات الحربية إلى زوال؟! فأخبرني أن الشيوخ المتواجدين في عين المكان، بين الشام وخراسان، عَلِموا من مصادر موثوقة عن خروج الدجال الأعْور من أصفهان؛ لكن أخبارا أخرى مؤكدة تقول إنه مربوط في سرداب بطريقة تثير الإعجاب؛ والسرداب في جزيرة لا تَظهر على الخرائط الطُّبوغرافية ولا ترْصدها الأقمار الاصطناعية. ودون إعطاء تفاصيل عن طريقة تكسير القيود والسير بجيش من اليهود، تقول القُصاصة، اعتمادا على حديث الجَسّاسة، إن الدجال سيُمْنع من دخول المدينة، فيضرِب عليها الحصار، ويفرُّ الرجال إلى الجبال، ويكون أكثر من يتبعه اليهود والنساء.

وبمجرد أن اِستهل الفقيه تفاصيل أخبار التقتيل وتقطيع الأجساد، قاطعتُه ليتَوقّفَ بثُّ المَشاهد المرعبة، واستدرجْتُه إلى العودة من آخر الزمان عبر رحلته المكوكية والاقتراب منّي مكانا وزمانا، أنا الذي أتَّهِمُه زورا بالتحجر والجمود، فتمنيتُ له سنة ميلادية سعيدة مليئة بالآمال خالية من الآلام، لكنه ردَّها علَيّ شتْما ولعْنا؛ فالاحتفال برأس السنة عنده حرام، وإن كنا نؤمن بعيسى عليه السلام؛ وخيرُ ما نصنع في هذا التاريخ استحضار نزول المسيح؛ فما رأَيْنا من فِتن وأخطار لَمِن إرهاصات آخر الزمان، فقد اشتد الخَطْب واستفحل الأمر، وكثر الهرج والمرج، ولا شك أن الدجال قد خرج، فما الجائحة إلا مؤامرة مِن صَنِيعته، تُسَهل اقتيادَنا بخديعته، وسينْزل المسيحُ بن مريم للقضاء على فتنته، يَلْحقه قُرْب بيت المقْدس ويقتلُه بالحرْبة بعد إذابته.

مع الأسف، ما زال الغموض يكْتنف جوانب عديدة من الدولة الدجّالية، فالمحدِّث لم يحدد مركز القيادة العسكرية، ولا موقف القِوى الأجنبية، وكثُرت التكهنات حول مصير الحكومات. لكن لمْ نَصِل بعدُ إلى نهاية السير، وينتظر شيوخي الإشارة للعودة إلى الإثارة، مع المُوالي من علامات الساعة الكبرى وفِتَنها العظمى. فعلمائي الأكارم ليسوا كغيرهم من أصحاب العمائم، افْتَتَنُوا بمواضيع الفتن فكانوا خطباء الفتنة، ووجدوا ضالّتهم في الحديث عن آخر الزمان فكانوا بِحق فقهاء آخر الزمان؛ وكفى بذلك تكريما وتشريفا.