رأي

نورالدين بوكروح: هل جن تبون؟

‏" سبق لي وأن صرحت بأن نسبة المشاركة لا تهمني، ما يهمني هو أن من سيفرزهم الصندوق يحوزون ‏الشرعية الشعبية التي تمكنهم غدا من ممارسة السلطة التشريعية". (عبد المجيد تبون).‏

‏"تبرر الكراهية والعنف المدني تجاه الحكام عندما لا يمكن تغييرهم أو تغيير قراراتهم" (إيمانويل ماكرون)‏

أفلت عبد المجيد تبون من باب السجن بفضل اللواء قايد صالح، قائد الأركان آنذاك والذي جعل منه ‏رئيسا للجمهورية مسبقا وعنوة، لكي يضمن هو التحكم بزمام أمور الجزائر بشكل أكيد. هكذا ظن. لكنه ‏توفي يومين فقط بعد حلف اليمين من قبل فرسه الذي كان ابنه في السجن منذ عدة أشهر. 

وفي نفس الوقت كان لواء آخر ورئيس المخابرات وقت الانتخابات الرئاسية قد وقع اختياره على مرشح ‏آخر والذي كان يردد اسمه سويعات قبل النطق بنتائج الاقتراع على أنه الفائز. لكن لم يفز وبعد أسابيع ‏حكمت المحكمة العسكرية على ذلك الجنرال بالخيانة وجردته من كل رتبه العسكرية وأردته جنديا بسيطا. ‏أما فرسه، انسان يدعى ميهوبي، فقد اختفى من المشهد السياسي وينتظر دوره للمثول أمام القضاء حيث ‏اتهم هو الآخر بالفساد. ‏هذا ما يمكننا قراءته على الصفحة الأولى من تاريخ "الجزائر الجديدة". لم نسمع في تاريخ الأمم عن ‏القرب الشديد بين باب السجن وباب الحكم مثلما نراه في أيامنا هذه. 

قبل أن يدور العام على توليه السلطة، ضرب الكوفيد – 19 تبون ووضعه بيد الموت، لكن الطب الألماني ‏استطاع أن يخلصه منه وأن يعيد له عافيته. لكن حدث ما لم يتصوره أحد ولم يتوقعه وهو ما تسبب فيه ‏الكوفيد-19 أو شيء آخر ورمى به فيما هو أسوأ من السجن والموت، وهو الجنون حيث من الأفضل أن ‏تفقد الحرية والحياة بدل فقدان قدرة العقل، مما يمنع التمتع بهما.  

إنها الفترة التي ظهرت فيها أول اعراض الجنون لدى السيد تبون الذي بدأ يرى في "الحراك" موكبا شعبيا ‏بعثه الله لكي يجعل منه أغليد (ملك) في بلاد تامزغا، وكان يتوقع منه هذا الموكب أن يعود إلى دوره ‏القديم كما يراه، أي جماهير لا حول ولا قوة لها وخاضعة لرغبات أصحاب السلطة. لكن، ويا للدهشة، لم ‏ترضى الجماهير التوقف عن السير والعودة إلى ديار الخنوع.

فتحول الحراك "المبارك" الذي أوصله عرضا ‏وليس رغبة إلى سدة الحكم، إلى حراك "لعين" لأنه يريد أن ينزع الحكم منه. ‏

 عندما يتعلق الأمر "بأيتها الناس"، يكون الجنون مصيبة كبيرة. فماذا بالأمر وهو يتعلق برئيس أكبر دولة ‏في أفريقيا؟ أكيد أن الأمر يأخذ منحى آخر وأبعادا كثيرة أولها أنه خطر على الوطن وآخرها سبب زعزعة ‏دولية. إن الأمر بالفعل لا يتعلق بمصير رجل واحد، لكن بمصير امة وجيرانها. 

لا أتوقف عند تصريح تبون وهو يتحدث بغرور عن الجزائر التي تملك "أفضل منظومة صحية في ‏إفريقيا" قبل أن يهرول إلى مستشفى ألماني، كما لن أتوقف عند حديثه عن ركود أكبر اقتصادات العالم ‏بنسبة 80 بالمائة، مع أنها كانت التصريحات التي بدأت تثير الشبهة حول صحته العقلية. لكن الشك ‏تبدل باليقين عندما سمع العالم أجمع تصريحاته المذكورة أعلاه جراء تشريعيات 12 جوان 2021.‏

أمدنا الرجل بالدليل القطعي على الخلل الذهني الذي أصيب به، وأنه لا يدرك ما يقوله رغم الثقة بالنفس ‏الظاهرة عليه. لقد وصل به الحد إلى الخلط بين الأقلية والأغلبية والتصريح أمام العلن أنه يمكن أن تكون ‏‏"منتخبا" بدون انتخاب، وأن عدد المنتحبين لا علاقة له ب «الشرعية". والغريب أكثر أنه يستقي ثقته ‏بكونه في الطريق الصحيح كون غالبية الشعب يذهب في الاتجاه المعاكس.

يبدو أن الأمور اختلطت عليه إلى درجة أنه لم يعد يفرق بين قوانين الطبيعة ورغباته، وينفض كالغبار ‏أمامه قوانين الحساب الأساسية، وينفي منفعة الإحصائيات ويتحدى العقل ويدهس الأخلاق السياسية. 

هل يعقل أن نتحدث عن "شرعية شعبية" عندما يقبل 30 بالمائة ما يرفضه 70 بالمائة من الشعب؟ إن ‏‏70 بالمائة هي النسبة التي تمنح الشرعية وليس العكس. وإلا فالعالم سيمشي بالمقلوب. لكن السيد تبون ‏لا يعنيه هذا الأمر ولا يكترث لأنه صادق في إيمانه هذا.  ومن هنا نرى علامات الصدق ترتسم على وجهه ‏عندما يتفوه بهذه الأقوال الغير الصائبة. 

تبون خبأ في طيات لا وعيه ذكرى انتخابه من قبل قلة قليلة من الشعب، وذكرى دستور "الجزائر ‏الجديدة" التي رفضها أربعة أخماس الكتلة الناخبة والآن ينفي أن المؤسسة التشريعية التي يريد فرضها ‏مهما كلف الثمن لم تكتسب سوى 30 بالمائة... على أكثر تقدير، حيث سيظهر في الأيام القادمة بأن 30 ‏هو في الحقيقة 15. وفي انتظار ذلك، فإنه يرفض أن ينظرإلى 70 بالمائة التي ملأت كأس الرفض. 

لكن هذا كله ليس مهما بما ان تبون ماض في طريقة ولا يعير أي اهتمام للأرقام والرفض المتزايد لكل ‏مبادراته. فلا جدوى من مقاشحته ومحاولة إسماعه صوت الصواب أو انتقاد قراراته أو حتى مشارعته ‏يتهمة الديكتارتورية. إنه لم يعد يعرف للكلمات معنى ومنها كلمة الحوار. فهو بعيد عن هذا كله الآن ‏ويتمتع بالسباحة وحده في عالم منقلب على رأسه وليس فيه جاذبية تعيد رس رجليه على أرض الواقع.‏‎ ‎

وبالنظر للمنصب الذي يشغله، يمكنه أن يصبح نيرون (‏NERON‏ حاكم روماني كانت تبدر منه تصرفات ‏جعلت الناس تقول عنه مجنونا واتخذ لنفسه لقب الامبراطور). ماذا بقي لنا ان نخشاه من السيد تبون ‏بعد أن قبل فكرة غياب منطقة القبائل من التمثيلية الوطنية؟ ولو كان هذا الفعل الوحيد الذي بدر منه، ‏فإنه كاف لوضعه في مستشفى الأمراض العقلية. أما الآن فهو يمضي الأوامر الواحدة تلو الأخرى لتجريم ‏معارضة هذيانه واعتبار كل انتقاد كان كعملية إرهابية، والعدالة لم تعد وسيلة حكم باسم الشعب، بل ‏باسم الأقلية التي تناهض إرادة غالبية الشعب. 

قبل أسبوع، قال لصحافي قناة الجزيرة أن الجزائر كانت ستتدخل في ليبيا لو دخلت قوات حفتر طرابلس. ‏أنا لا أؤمن بهذا الكلام. لكن، ربما كان يرى نفسة كالمرشال رومل (‏Rommel)‎‏ وهو يقابل المارشال – ‏الحداد (‏maréchal-ferrant)‎‏ حفتر، ونسي أن العديد من االجيوش معسكرة هناك منذ زمن طويل ( ‏الروس، العثمانيين، الإماراتيين، القطريين، المصريين، الاوربيين...)، دون الحديث عن الميلشيات المحلية ‏والمرتزقة الأتية من كل حدب وصوب. أو ربما رأى نفسه يشعل حربا عالمية يكون له فيها دورا بطوليا. ‏

وإن تأكد الأمر أن تسرعه في تنصيب المؤسسة التشريعية الجديدة هو للالتزام بعقد سري اتخذه (ارسال ‏الجيش الشعبي الوطني لتعويض قوات "برخان" ‏Barkhane‏ أو تعزيزها) حبث أنه يحتاج إلى تصويت ‏ثلثي البرلمان، فهذا يعني إن 70 بالمائة من الشعب، والتي يحسبها تبون أقلية، لن يبقى أمامهم سوى ‏الذهاب إلى الجحيم وخلق حزائر أخرى في مكان آخر. أليس من المنطقي أن يذهب هو؟ وحتى من ناحية ‏التكلفة، فأن هذا الحل أقل تكلفة للجزائر.

إن تبون يضع الجزائر في خطر كبير وكبير جدا بتصريحاته الغير مسئولة والغير معقولة والحمقاء، والتي لم ‏يتلفظ بها أي مسئول جزائري في هذا المستوى، ويلعب بمستقبل أبنائها.

البلدان لا تموت كما يموت الإنسان، فهي لا تلفظ أنفاسها الأخيرة في لحظة وتتوارى أجسادها عن الأنظار ‏بمجرد دفنها. إنها تموت في صخب عارم، صخب الحرب، أو تعيش تدهورا بطيئا، يشعر به سكانها من ‏تقهقر اقتصادها وانقسامهم إلى شيع مساندة أو مناهضة للنظام، وانطفاء شعلة الأمل في صدور‎ ‎أبنائه في ‏غد أفضل وحياة عصرية.‏‎ 

وبعد كل هذا، ما العمل من أجل أن يعود رئيس متربع على عرش السلطة إلى صوابه الذي فقده؟ ماذا بقي ‏للشعب الجزائري لكي "يلين قرارات" حكام لم ينجح في "تغييرهم" بطرق سلمية؟ هل يسمع لمقولة ‏ماكرون، علما بأن هذا الأخير هو السند الدولي المعلن الوحيد لتبون الذي جن؟ ‏


نورالدين بوكروح* وزير جزائري سابق. مثقف وباحث ينشر في الصحافة الدولية.