إن التكوين الأكاديمي للملك محمد السادس لا يمكن اعتباره مجرد مسار جامعي اعتيادي، بل هو تجلٍّ مبكر لعقلٍ سياسي تشكّل في تقاطع بين الشرعية التاريخية للمؤسسة الملكية والرؤية الاستشرافية لمفهوم الدولة في عالم متعدد الأقطاب. فمن خلال أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه في القانون العام، الموسومة بـ”التعاون بين السوق الأوروبية المشتركة واتحاد المغرب العربي”، تتجلّى ملامح تفكير نسقي يتجاوز النظرة الثنائية للعلاقات الدولية، نحو تصور دينامي يحلل بنية التفاعلات الإقليمية في ضوء تحديات السيادة والتكامل والشراكة الاستراتيجية، مع تركيز خاص على إمكانيات التعاون والشراكة جنوب-جنوب كأفق بديل لإعادة توازن موازين القوى التقليدية.
لكن بفضل متانة هذا التكوين المتجذر في المعرفة القانونية والتحليل الجيوسياسي، برزت صياغة منهجية عقلانية متماسكة رسمت معالم الترابط بين الداخل والخارج، وتؤمن بضرورة تحويل الدبلوماسية من وظيفة بروتوكولية إلى أداة لتعزيز التموقع الاستراتيجي، هذا المعطى الذي تجسد لاحقًا ضمن مشروع دبلوماسي متكامل الأركان، تقوده رؤية ملكية حكيمة ومتبصرة تنطلق من الوعي العميق بالمصالح الوطنية، ومن قدرة المغرب على بناء توازنات جديدة من منطلق عمقه الإفريقي، وامتداده المتوسطي، وروابطه الأطلسية.
وفي هذا الصدد، منذ إعتلاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه الميامين، لم يكن تعاطيه مع الحقل الدبلوماسي تعاطيًا تقليديًا محكومًا بنسق التمثيل أو الإبلاغ السياسي المحدود، بل كان مشروعًا سياديًا عميقًا قائمًا على تحويل الدبلوماسية من ممارسة تابعة إلى وظيفة منتجة، ومن مجرد أداة للربط الخارجي إلى جهاز مفاهيمي متكامل يعبّر عن الذات السياسية والروحية للدولة، غير أن هذا التحول لم يكن وليد ظرفية مؤقتة أو نتيجة لتغيرات جيوسياسية مفاجئة، بل نابع من رؤية ملكية حكيمة تجمع بين فلسفة الدولة ضمن أفق تاريخي عابر للزمن، مانحة بذلك نسقًا جديدًا للدبلوماسية أساسه الفعالية، والتراكم، والهيكلة المؤسساتية المتطورة.
وتجسيدا لهذا، لم يتعامل الملك محمد السادس مع إفريقيا من زاوية الاستيعاب الطارئ أو الامتداد الطموح، بل من مرجعية الامتداد الطبيعي للجغرافيا المغربية، والعمق الروحي والسياسي لهوية الدولة، من مقاربة مفادها؛ أن الاشتغال في القارة لا يرتكز على مفهوم التغلغل الكولونيالي أو اختراق الأسواق، بل على مفهوم الانتماء القاري، بما يعنيه ذلك من تضامن استراتيجي وتنمية مشتركة وهيكلة ميدانية للعلاقات جنوب-جنوب، بحكم أن انخراط المغرب في إفريقيا لم يكن مجرد انتقال من المركز إلى الهامش، بل عودة رمزية للذات المغربية إلى مدارها الأصلي بعد مرحلة طويلة من القطيعة المصطنعة، أعادت من خلالها الرباط هندسة علاقاتها عبر مداخل اقتصادية، أمنية، روحية ودينية، جعلت من الملك محمد السادس فاعلًا رئيسيا ومحوريا، في الآن ذاته، في إنتاج توازن إفريقي داخلي غير تابع لأي قطبية خارجية.
ومن المعلوم، أن هذه العودة لم تكن معزولة عن الرؤية الشاملة لإعادة هيكلة الدبلوماسية المغربية، فقد انتقل المغرب في عهد الملك محمد السادس من منطق الدفاع عن قضية الصحراء إلى منطق الهجوم الدبلوماسي المتوازن، بحيث لم تكتفي الرباط بإقناع الأطراف بعدالة مواقفها، بل شرعت في فرض الاعتراف الواقعي بحقها التاريخي والسيادي، ليس فقط عبر الحراك السياسي، بل من خلال إنتاج واقع جغرافي-تنموي على الأرض برز معه التحول الاستراتيجي الذي نتج عنه الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه في لحظة مفصلية، متوّجًا بهذا سلسلة طويلة من التراكمات الميدانية والمؤسساتية والدبلوماسية، ومُحرّكًا لمواقف أوروبية لطالما ظلت مترددة بين الشرعية والواقعية، بدءًا من فرنسا، مرورًا بإسبانيا، وصولًا إلى بريطانيا التي بدأت تتخلّى تدريجيًا عن حيادها الغامض خلال الآونة الأخيرة.
وتبعا لذلك، يمكن القول بأن منجزات الملك محمد السادس لم تكن انتصارًا ظرفيًا في معركة جيوسياسية، بل كانت تكريسًا لمفهوم جديد للسيادة الفاعلة، بحيث لم تعد السيادة مجرد خطاب قانوني، بل ممارسة حيوية تُنتج يوميًا عبر استثمار المجال، وتحصين الأمن، وربط العمق بالصورة، وتحويل الجغرافيا إلى حليف دبلوماسي دائم، وفقا لهذا المفهوم، أصبحت الصحراء المغربية غير مقتصرة على الامتداد الترابي للسيادة، بل أضحت منصة استراتيجية للربط بين المحيط الأطلسي وفضاء الساحل والصحراء، مما جعل المغرب اليوم في قلب الممرات الجيوسياسية الكبرى للطاقة، الأمن، والمبادلات العابرة للحدود.
وما يعزز ذلك، هو المكانة التي يحظى بها المشروع الملكي والذي لم يعد مقتصرًا على الأبعاد الاستراتيجية الصلبة، بل شمل أيضًا إدماجًا مفاهيميًا عميقًا لعناصر رمزية غالبًا ما تم تهميشها في النظرية الدبلوماسية الكلاسيكية، والتي تأتي ضمن أسسها قضايا حقوق المرأة وتعزيز مكانتها ضمن منظومة المجتمع، فالملك محمد السادس لم يتعامل مع المرأة باعتبارها كائنًا بيولوجيًا مؤنثًا يُدرج لغايات الزينة المؤسساتية، بل عزز من مكانتها وجعل منها أولوية ضمن نسق الحداثة ومسار التنمية المجتمعية والاقتصادية ودعم مبادئ المناصفة والحد من التمييز بالقدر الذي جعلها تمثل الصيغة السياسية العليا لمفهوم الأنوثة السيادية، بما يعنيه ذلك من إدماج فعلي رصين للمكون النسوي داخل المجتمع وضمن البنية الأساسية للدولة. وتأكيدا لذلك، لم يكن الإدماج الاقتصادي والاجتماعي للمرأة عنصر مجاملة ضمن النسق السياسي، بل يعتبر انخراطًا وجوديًا في خطاب الحكمة، العدل، والمشروعية، حيث أصبحت المرأة المغربية جزءًا من البنية الفاعلة للقرار الدبلوماسي، سواء عبر تقلدها مناصب قيادية في التمثيليات الخارجية، أو من خلال تصدّرها لمشاريع تنموية وسياسية داخل الوطن وخارجه، كل هذه التحولات البنيوية، جعلت من إدماج المرأة المغربية كفاعل نوعي في السياسة الخارجية مسألة أساسية، ليس بوصفها حاملة لصورة حداثية، بل إنما كرمز لتعددية الهوية المغربية وقدرتها على إنتاج خطاب معقول، ناعم، غير عدواني، لكنه صارم في تثبيت الثوابت الوطنية، والدليل على ذلك، في كون المرأة المغربية أصبحت في عهد الملك محمد السادس تتبوأ مناصب قيادية في السلك الدبلوماسي، باعتبارها جزء رئيسي من هندسة واضحة التوجهات تشهد للعالم أن المغرب لا يُجرد مواطنيه من طاقاتهم بسبب النوع أو الخلفية، بل يدعم انخراطهم والتزامهم وطموحاتهم بمقدار التكوين والكفاءة والالتزام الوطني.
كما أن عهد الملك محمد السادس، لم تعد وزارة الخارجية الجهاز الوحيد المخوّل بصياغة المواقف الخارجية، بل تحوّلت الدولة المغربية بكامل أجهزتها الأمنية، الاستخباراتية، الروحية، والاقتصادية، إلى منظومة متكاملة من الدبلوماسية متعددة المستويات، حيث تشتغل المؤسسة الملكية كمركز تفكير استراتيجي، يُوجّه ولا يهيمن، يُخطط ولا يُملي، يُبدع ولا يُكرّر.
ضمن هذا الصدد، لم تعد الدبلوماسية المغربية حكرًا على الفاعلين الرسميين، بل شهدت انفتاحًا ملموسًا على الفاعلين غير الحكوميين، وفي مقدمتهم المجتمع المدني بمختلف تعبيراته، الذي بات يشكل حلقة وُسطى بين الدولة وامتداداتها في الخارج. وقد عزز هذا التحول من موقع الديمقراطية التشاركية، وجعل من الدبلوماسية العمومية إحدى أدوات التأثير الناعمة، التي تُسهم في الدفاع عن القضايا الوطنية، وتكريس صورة مغرب منفتح، تعددي، ومتفاعل مع التحديات الكونية بروح المسؤولية والحوار. وهكذا أصبحت مشاركة المجتمع المدني امتدادًا طبيعيًا للرؤية الملكية الشاملة، التي تؤمن بأن الدفاع عن المصالح العليا للوطن لم يعد حكرًا على النخب التقليدية، بل هو فعل جماعي تتقاطع فيه المؤسسات مع المواطن، وتلتقي فيه الدبلوماسية الرسمية بالدينامية المجتمعية في إطار من التكامل والتشارك.
وتفعيلاً لهذا التصور المتقدم للدبلوماسية المغربية، برزت منهجية ملكية قائمة على الاستباق والنجاعة، ترتكز على استثمار المعرفة، والمرونة، والتراكم الاستراتيجي، بدل الارتهان للهشاشة أو الارتهان لمنطق الارتجال وردود الفعل الانفعالية. ففي عهد الملك محمد السادس، أعيدت هيكلة الوظيفة الدبلوماسية من خلال تشبيكها مع منظومات متعددة، تشمل الجهاز الاستخباراتي، والمجتمع المدني، ومراكز التفكير، والقطاع الخاص، مما أفضى إلى تشكّل منظومة دبلوماسية هجينة، تتجاوز الانقسام التقليدي بين الدولة والمجتمع، وتُؤسس لفاعلية متكاملة تُنتج القرار السياسي من داخل الحركية المجتمعية، لا من خلال مكاتب مغلقة أو بيانات نمطية.
من جانب آخر، يسهر الملك محمد السادس على صيانة الأمن الروحي، بصفته أمير المؤمنين، بحيث أصبحت الدبلوماسية الدينية في العهد الجديد ضمن مكانة قوية موازية للدبلوماسية الرسمية، ومحرّكا أساسيا لها في العديد من القضايا، وبالتالي برزت أهمية تصدير النموذج الديني المغربي السمح المعتدل القائم على أركان مؤسسة إمارة المؤمنين، المتمثل في المدرسة المالكية الأشعرية والصوفية السنية، ليس فعلًا وعظيًا أو نشاطًا تبشيريًا، بل استراتيجية جيو-روحية تعزز أبعاد الأمن القومي الإقليمي، وتسعى إلى بناء تحصين حضاري ضد التيارات الراديكالية المتطرفة التي وجدت في هشاشة العقيدة السياسية ببعض الدول الإفريقية والأوروبية أرضية خصبة للانتشار، وفي الإطار ذاته، أصبحت المؤسسات الدينية المغربية المتمثلة في معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، والمجلس العلمي الأعلى، ومؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، وغيرها من باقي المؤسسات الدينية المختصة في تدبير الحقل الديني، أدوات إنتاج ديني ودبلوماسي في الآن ذاته، الأمر الذي جعل للمغرب التموقع الاستراتيجي الرئيسي كمرجعية روحية وأمنية في إفريقيا وأوروبا، في زمن تعثّرت فيه كثير من الدول في ضبط توازنها العقدي، أو في مقاربة التعامل مع الإسلام باعتباره مكونًا لا تهديدًا.
وتطبيقا لذلك، لم يكن خطاب العيش المشترك الذي تبناه الملك محمد السادس خطابًا أخلاقيًا ساذجًا، بل تموقعًا سياسيًا عميقًا ينبني على الرفض الرصين للانزلاق نحو النزاعات الإثنية، المذهبية، والعرقية. لأن معاني العيش المشترك في الرؤية الملكية ليس تسامحًا متعاليًا، بل مشروع سياسي يقوم على مبدأ الواقعية الكونية، حيث يتم الاعتراف بالتعدد بوصفه قاعدة بنيوية للاستقرار، لا استثناءً ظرفيًا، وهو المعطى الذي ساهم في جعل المغرب يتحول إلى فاعل مرجعي في حوارات الأديان، ليس عبر شعارات إنشائية، بل من خلال استقبال شخصيات روحية كبرى كالبابا فرانسيس، والمشاركة الفاعلة في النقاشات المتعلقة بالحرية الدينية، والعدالة الإيمانية، ومفهوم “الغيرية” السياسية.
في الواقع، إن خطاب العيش المشترك الذي نظّر له الملك محمد السادس، تجليًا لصيغة سيادية تقوم على نزع القداسة عن الهوية الأحادية، واستبدالها بمفهوم الهويات المركبة داخل وحدة سياسية سيادية، فالعيش المشترك ليس وصفة للتماسك الاجتماعي فقط، بل هو مشروع دولتي لإنتاج مجتمع مقاوم للتطرف، متصالح مع تعدده، وقادر على الانخراط في العالم دون أن يتلاشى في ثقافته. وقد جاءت تحركات المغرب على الساحة الدولية لبلورة هذا المفهوم ضمن تحالفات مع إسرائيل، الفاتيكان، وبلدان غرب إفريقيا، من دون أن يُفرّط في هويته، ولا أن يذوب في الآخر.
ومما تنبغي الإشارة إليه هنا، بأن المدرسة المغربية في السياسة الخارجية، والتي يمكن أن نُطلق عليها “مدرسة النهج المرن”، تميّزت بقدرتها الفائقة على إدارة التوازنات الدقيقة، ليس من منطلق الانتهازية المؤقتة، بل استنادًا إلى تموقع معرفي عميق في مسألة السيادة، لأن السياسة الخارجية المغربية لم تعد قائمة على رد الفعل، بل باتت أداة فكرية لإنتاج الاستراتيجية، حيث يتم اختيار التحالفات لا الخضوع لها، ويتم بناء القرار لا استيراده، بحيث أصبحت هذه السياسة المعتمدة من طرف المغرب فاعلًا رئيسيا في ملفات شائكة كالهجرة، مكافحة الإرهاب، الوساطة في النزاعات، ومواجهة التمدد الإيديولوجي الهدّام، دون أن يفرط في ثوابته أو ينساق وراء الإملاءات المصلحية العابرة.
ومن منطلق هذه المقاربة السياسية، يمكن القول بأن الملك محمد السادس قد أسّس لنموذج متفرّد في ممارسة الدبلوماسية، كونه لا يكتفي بالتموقع داخل النظام الدولي، بل يسعى إلى إعادة صياغة المعجم الدبلوماسي نفسه، عبر إدراج مفاهيم جديدة مثل السيادة المنتجة، وإمارة المؤمنين، والدبلوماسية الدينية، والعيش المشترك كأدوات استراتيجية لا شعارات أخلاقية. وعلى هذا الأساس، فالمغرب لم يعُد مجرد متلقٍّ للمبادرة الدبلوماسية، بل بات فاعلًا منتجًا لمعادلات دولية جديدة، تُبنى فيها الجغرافيا على الاستبصار، والدين على العقل، والسيادة على الفعالية.
إن جلالة الملك محمد السادس لم يكن في تعاطيه مع الشأن الخارجي حبيسًا للحدود التقليدية للدبلوماسية الرسمية، ولا تابعًا لسلّم المصالح الذي تفرضه القوى الدولية الكبرى، بل انتهج مسارًا عقلانيًا قائمًا على بناء بنية مؤسساتية دبلوماسية صلبة، تنأى بنفسها عن الارتجال الشخصي، وتعتمد في عمقها على ثلاثة أركان متداخلة: المرجعية السياسية السيادية، الكفاءة التقنية الفاعلة، والنموذج الإداري المتجدد، وهي المعالم التي تجسدت على المستوى العديد من المستويات الدبلوماسية، بحيث لم تعد وزارة الخارجية الجهاز الوحيد المخول بصياغة المواقف الخارجية، بل تحولت الدولة المغربية بكامل أجهزتها الأمنية، الاستخباراتية، الروحية، والاقتصادية، إلى منظومة متكاملة من الدبلوماسية متعددة القنوات والمسارات، وهي الرؤية التي جعلت من المؤسسة الملكية مركز تفكير استراتيجي، يُوجّه ولا يهيمن، يُخطط ولا يُملي، يُبدع ولا يُكرر.
كما نتج عن هذا التحول نمطًا جديدًا في تموقع المغرب ضمن الخريطة الدولية، وهو ما تجلى بوضوح في التعامل المغربي مع الأزمة الروسية الأوكرانية، إذ اختار المغرب نهج الحياد الإيجابي لا الصمت الانسحابي، فامتنع عن الانخراط في الاستقطاب الإيديولوجي الحاد بين موسكو والعواصم الغربية، دون أن يتخلى عن التزامه التاريخي بمبادئ الشرعية الدولية، ولا عن تحالفاته الاستراتيجية مع شركائه الأوروبيين والأمريكيين. ولم يكن الموقف المغربي انعكاسًا لتردد دبلوماسي، بل ترجمة دقيقة لفلسفة مغربية صلبة تقوم على الموازنة بين الثوابت الأخلاقية ومقتضيات المصلحة، بين منطق الدولة ومنطق السوق، بين واجب الالتزام وحق السيادة. بحكم أن المغرب رفض أن يتحول إلى تابع استراتيجي في نزاع لم يصنعه، ورفض في الوقت نفسه أن يُقايض صمته بمنافع ظرفية، الأمر الذي برزت ضمن تعاليمه عبقرية الملكية المغربية في ضبط الإيقاع السياسي الداخلي مع التطورات الدولية، دون الوقوع في فخ الاصطفاف العبثي أو العزلة المحايدة.
وتكريسا لهذه الملائمة، لم يلعب المغرب دورا فاعلًا مستهلكًا للقرارات الدولية، بل أصبح شريكًا في صياغة القرارات في صلب النظام العالمي الناشئ، وهو بذلك المنعطف الأساسي الذي جعل من الرباط نقطة تمركز استراتيجية في الربط بين شمال المتوسط وجنوبه، وبين ضفّتي الأطلسي وإفريقيا، ليس عبر موقعها الجغرافي، لكن من خلال قدراتها الاستخباراتية والأمنية والدينية، التي أضحت مرجعًا في مجال مكافحة الإرهاب، وتفكيك الشبكات العابرة للحدود، وبناء مقاربات إنسانية قائمة على الوقاية الثقافية والعقائدية بدل الردع الأمني فقط، بحكم أن المغرب لم يُقدّم نفسه كقوة قمعية، بل كقوة معرفية تستثمر في الإنسان قبل أن تُوظف العنف المشروع، وهي المقاربة التي أعادت الاعتبار لفكرة “الأمن المعنوي”، التي أصبحت ركيزة من ركائز النموذج المغربي في صيانة الاستقرار الداخلي والخارجي.
وتفعيلا لهذا التصور الدبلوماسي المغربي انبثقت عن هذه القدرة الاستباقية منهجية ملكية تقوم على استثمار المعرفة والمرونة والتراكم، بدل الهشاشة والارتجال وردود الفعل المتشنجة، فقد أعاد الملك محمد السادس هيكلة الوظيفة الدبلوماسية عبر تشبيكها مع جهاز الاستخبارات، والمجتمع المدني، ومراكز التفكير، والقطاع الخاص، مما خلق منظومة دبلوماسية هجينة تتجاوز الانقسام الكلاسيكي بين الدولة والمجتمع، وتؤسس لفاعلية متكاملة حيث يتم إنتاج القرار السياسي في قلب الحركية المجتمعية، لا في مكاتب معزولة أو بيانات بيروقراطية، هذه الوظيفة الثانية للمدرسة الملكية، التي حولت الدولة من كيان مغلق إلى جهاز تفاعلي يُنتج السياسات من خلال الاشتباك مع المجتمع لا الابتعاد عنه.
وغني عن البيان، بأن إبداعات الملك محمد السادس في، لم تكن نظامًا دبلوماسيًا فحسب، بل فلسفة كاملة في تدبير السيادة، والتي لم تعد مجرد مفهوم قانوني للدفاع، بل أصبحت فضاءً منتجًا للقوة الناعمة والصلبة في الوقت ذاته، من هذا المنطلق، أصبحت الدبلوماسية المغربية في عهد الملك محمد السادس مدرسة سيادية، متعددة الوظائف، منفتحة على التحول البنيوي في النظام العالمي، قادرة على إعادة إنتاج المفاهيم لا فقط تنفيذها، ومؤهلة للعب أدوار الوساطة في نزاعات إقليمية ودولية بدون أن تُستعمل كأداة في يد القوى العظمى، بحيث خرجت الرباط من مدار الدولة الهامشية، ودخلت نادي الدول المنتِجة للقرار الجيوسياسي في زمن تعثّرت فيه مراكز كانت بالأمس مرجعية معتمدة دوليا. وفقا لذلك، انبثقت مفاهيم مدرسة المرونة الذكية، التي تُجيد الصمت حين يتطلب الأمر ذلك، والمواجهة حين يُفرَض عليها، وتُوازن بين الروح والسياسة، بين الأمن والعقيدة، بين الدولة والأمة، إنها مدرسة ومرجعية لا تستنسخ، ولا تدّعي الكمال، لكنها تُقدّم للعالم نموذجًا مغربيًا فريدًا يُزاوج بين الأصالة السيادية، والحداثة التشاركية، في عصر يتآكل فيه القرار، وتتحوّل فيه الدول إلى كيانات وظيفية بلا روح.
أما بخصوص بنية النظام العالمي الجديد، لم تعد السيادة تُقاس فقط بامتلاك القرار السياسي أو التفوق العسكري، بل أضحت مرهونة بالقدرة على إنتاج الطاقة، التحكم في موارد الماء، امتلاك منافذ العبور، وحيازة الريادة في الاقتصاد الأخضر، وقد استوعب الملك محمد السادس مبكرًا هذه التحولات البنيوية، وأعاد صياغة الدبلوماسية المغربية على قاعدة التموقع الطاقي، كمدخل لفرض معادلات الجذب، والهيمنة الناعمة، وموازنة التبعية الاقتصادية التي أرّقت دول الجنوب لعقود من الزمن.
وفي هذا الشأن، لم يقم المغرب بالتعامل مع الطاقة كسلعة أو مورد، بل عزز التعامل ضمن مفهوم مركزي في استراتيجية التحرر السيادي، إذ تجاوز مرحلة الاستهلاك السلبي إلى مرحلة الإنتاج الذكي، بل ذهب أبعد من ذلك بتوظيف الطاقة النظيفة – الشمسية والريحية – كأداة تفاوض سياسي، واستثمار استراتيجي، وإشعاع إيديولوجي، فالمملكة المغربية اليوم لا تُصدّر فقط الفوسفاط والكهرباء، بل تُصدّر تصورًا مغايرًا عن التنمية، يجعل من البيئة والسيادة صنوان لا خصمان، ويُزاوج بين الربح الاقتصادي والمبدأ الأخلاقي في لحظة انكشفت فيها الأنظمة الريعية والتوسعية القائمة على استنزاف الكوكب واستعباد الشعوب.
والحالة هذه تنطبق على مجموعة من المشاريع الحيوية، تتجلى أهمها في مشروع نور بورزازات الذي لا يعتبر محطة طاقية فحسب، لكن هو تمظهر مادي لرؤية ملكية تسعى إلى تمكين الجنوب من تجاوز التبعية للنفط الأحفوري، والخروج من الابتزاز الطاقي الذي تمارسه قوى الشمال، فمن خلاله، بَنى المغرب لنفسه صورة الدولة التي لا تكتفي بالاستهلاك بل تُنتج، ولا تساوم بالبيئة بل تحميها، مما جعله فاعلًا غير تقليدي في المفاوضات المناخية، من مؤتمر كوب-22 بمراكش إلى قمة شرم الشيخ، حيث لم يكن الحضور المغربي مجرد بروتوكول رمزي، بل مبادرة عملية لربط البيئة بالسيادة، والمناخ بالتنمية، والسياسة بالعدالة.
وبالنظر إلى كون الجغرافيا ليست قدرًا بل أداة قوة، أعاد الملك محمد السادس توجيه موقع المغرب الجغرافي من خانة المعبر إلى مرتبة المحور، فالمغرب لم يعد مجرد نقطة عبور بين إفريقيا وأوروبا، بل تحوّل إلى منصة لوجستية استراتيجية بفضل موانئ ضخمة كطنجة المتوسط، ونظام سككي متطور، وبنية تحتية متقدمة، ما سمح له بإعادة التفاوض على موقعه ضمن السلاسل العالمية للقيمة، كما أن هذا التحول لم يكن تقنية بنيوية، لكن ثمرة تصور فلسفي يجعل من الجغرافيا حليفًا لا عبئًا، ومن العبور قيمة مضافة لا مجازفة أمنية.
وبقراءتنا لهذه التوجهات، نفهم الريادة الملكية الهادفة إلى تحويل الاقتصاد إلى رافعة دبلوماسية، حيث أصبحت الاتفاقيات التجارية ليست غايات في ذاتها، بل أدوات لإعادة هندسة التحالفات، وتوسيع الهوامش السيادية، وخاصة في ظل تحول العلاقات الاقتصادية إلى أدوات ضغط سياسي، كما كشفت الأزمة الروسية الأوكرانية، وانقطاع سلاسل التوريد، وتحكم قوى الشمال في التقنيات والمعرفة أهمية العلاقات الاقتصادية في حل الأزمات، ولأن المغرب لم يَعد يحتمل أن يبقى سجين الحاجة، انطلق في بناء نموذج تنموي جديد، ليس كمجرد وثيقة تقنية، بل كمشروع تحرري، يربط الاستقلال الاقتصادي بالاستقلال السياسي، ويؤسس لاقتصاد وطني منفتح دون أن يكون مكشوفًا، ومندمج دون أن يكون ذائبًا.
غير أن هذا التوجه لم ينبني على منطق الصدقات أو الإعانات، بل على قاعدة الشراكات المتكافئة، وهو ما تجلى في الانفتاح على إفريقيا جنوب الصحراء، عبر نموذج اقتصادي يقوم على الربح المشترك، لا الهيمنة، ويعيد التوازن إلى علاقات المغرب مع محيطه الجنوبي، ويُمكّنه من لعب دور الحارس الإقليمي للثروات والمسارات الحيوية في القارة، ما أعطى للمملكة وزنًا تفاوضيًا مع القوى الكبرى التي أصبحت تُدرك أن من لا يُخاطب إفريقيا من خلال الرباط، يُخاطر بأن يفقد شرعية حضوره القاري.
ولعل جوهر هذه المدرسة السياسية يتمثل في أن الملك محمد السادس لم يجعل من الاقتصاد وسيلة للهيمنة، بل أداة للإدماج، ولم يجعل من التجارة منفذًا للنهب، بل بوابة للسلام، حيث ترتكز الرؤية الاقتصادية المغربية على إنتاج الثروة لا فقط توزيعها، وعلى تحويل القرب الجغرافي إلى مصلحة استراتيجية، وعلى الربط بين الطاقات والإنسان، وبين التنمية والاستقرار، بما يجعل من المغرب فاعلًا منتجًا للحلول في زمن عجزت فيه المؤسسات المالية الدولية عن اقتراح نماذج قابلة للتطبيق خارج منظومة الاستعباد.
وتماشيا مع هذه المقاربة، أصبحت الدبلوماسية الاقتصادية غير منفصلة عن الوعي الأمني، كما تعتبر رئيسية في تشكيل امتداده المادي، وقد أدرك النظام المغربي أن لا أمن بدون اقتصاد قوي، ولا اقتصاد بدون بنية دبلوماسية نشطة قادرة على حماية الاستثمار، وتحصين القرار الوطني، وضمان التموضع في السوق الدولية وفقًا لمصالح الدولة، لا وفقًا لتقلبات العرض والطلب، وتعزيزا لهذا المسار برزت جدلية الأمن الاقتصادي، التي أصبحت أحد أعمدة العقيدة السيادية للمملكة، والتي تُزاوج بين الإنتاج الداخلي، وتنويع الشركاء، والذكاء الصناعي، والأمن الغذائي، في تصور يتجاوز الاستهلاك الظرفي إلى التمكين البنيوي.
وعلى هذا الجانب، لم تعد الدبلوماسية المغربية مجرد سياسة خارجية، بل أصبحت نظامًا شاملًا لإنتاج القوة، يُزاوج بين الفكر الجغرافي، والذكاء الطاقي، والنزاهة البيئية، والتوازن المالي، دون الوقوع في فخ الارتهان أو الانغلاق، وهو ما يجعل من مشروع الملك محمد السادس نموذجًا فريدًا لدولة صغيرة جغرافيًا، كبيرة استراتيجيًا، تُدير علاقاتها بالمنطق، لا بالصوت، وتفرض حضورها عبر الفعل لا عبر الشعارات، وتُؤسس لصيغة مغربية مستقلة في زمن تتشابه فيه الدول وتُستنسخ التجارب.
وتأكيدا لهذه الفلسفة التي يعيد فيها العالم رسم خرائطه بمداد السيولة الجيوسياسية، كان على الدول ذات الرؤية العميقة أن تُؤسّس لوجودها وفق منطق التحول، لا التكرار، وأن تُدير مواقعها الجغرافية لا بوصفها معابر، بل بوصفها مفاتيح لتوازنات استراتيجية، وانسجاما مع هذه التفاعلات الدولية، لم تكن علاقات المغرب مع أوروبا استمرارًا أو صدى للتاريخ الاستعماري، بل كانت نزعًا هادئًا للشرعية القديمة، وتشييدًا لتوازن جديد مبني على التكافؤ الحذر، والتبادل الآمن، والندية المحسوبة.
بحيث أن، الملك محمد السادس لم يُسقِط أوروبا من حساباته، لكنه أسقط عنها هالة التفوق الأخلاقي والتنموي، وأعاد صياغة العلاقة معها من موقع الشريك المعقّد، لا التابع الساذج، وفي هذا الصدد، أصبحت العلاقة المغربية الأوروبية خاضعة لمبدأ التوازن الاستراتيجي، حيث لم يعد القرب الجغرافي مرادفًا للتبعية السياسية، بل أصبح شرطًا لتعقيد التفاوض، إذ يدرك المغرب جيدًا أن أوروبا في حاجة إلى استقراره أكثر مما هو في حاجة إلى رضاها، وأن الحدود البحرية والبرية التي تربط الطرفين لا تحمل فقط شحنات تجارية، بل تمرر أمنًا، وطاقات، ومصالح أمنية واقتصادية حيوية.
ومواكبة لهذه المقاربة، استطاع المغرب أن يُجمد عمليًا المواقف الرمادية لفرنسا، ويُحوّل اعتراف إسبانيا بمغربية الصحراء إلى واقعة سياسية تؤرخ لنهاية مرحلة استعمارية قديمة وبداية مرحلة من الاعتراف بواقع القوة الهادئة، لأن الرباط لم تعد تَقبل الحياد الأوروبي المزيف، ولا تتعامل مع قضاياها السيادية كمجرد ملفات على طاولة النقاش، بل فرضت الاعتراف بها كأرضيات لأي تحالف، وفي مسار هذا التحول الناجع، نجح الملك محمد السادس في تسييج المجال المغاربي بمواقف داعمة، وفي تطويق محاولات التقويض التي تمارسها الجزائر عبر الحضور الأوروبي.
ولعلّ اللحظة الأكثر دلالة على هذا التحول البراغماتي السيادي، هي تلك التي مهّدت لتثبيت العلاقة مع إسرائيل، إذ لم تكن الخطوة المغربية مجرد تطبيع رمزي، بل كانت إعادة هندسة لتحالف إقليمي، وإعلانًا عن خروج المغرب من منطق الاصطفاف العاطفي إلى منطق بناء النفوذ البراغماتي، فالملك محمد السادس، بوصفه رئيسًا للجنة القدس، لم يُفرط في الثوابت، لكنه أعاد تعريفها، إذ فهم أن الدفاع عن القدس لا يمر عبر الشعارات، بل عبر الحضور، والندية، وفتح قنوات التأثير بدل الانغلاق في سراديب العدمية الثورية.
لقد قرأ الملك محمد السادس التحولات التي تعصف بالمنطقة، ولاحظ أن من لا يبادر إلى نسج تحالفاته بعقله، سيُفرض عليه تحالف بأجندة غيره، ومن هذا المنطلق، بُنيت العلاقة مع إسرائيل على منطق المصالح، وتبادل الخبرات، وإعادة التموقع الإقليمي، لا على التماهي أو التنازل، لأن المغرب هنا لم يُخاطب واشنطن أو تل أبيب فقط، بل خاطب النظام العربي الغارق في النفاق السياسي، ووجّه رسالة مفادها أن من يُدير قضاياه بعقل الدولة لا يخشى الاتهام، ولا يحتاج إلى شرعية الشارع المؤدلج.
هذه القراءة الاستراتيجية تقودنا إلى العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تعد علاقة مساعدات أو بروتوكولات، بل تحولت إلى شراكة استراتيجية ذات طابع أمني، استخباراتي، اقتصادي وجغرافي، لقد كان اعتراف إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمغربية الصحراء ليس منحة ظرفية، بل تتويجًا لعقود من التنسيق العميق بين المؤسستين الملكيتين والعسكرية في المغرب، ونظيراتها الأمريكية، وما كان لهذا الاعتراف أن يتحقق لولا وجود قيادة تملك فهمًا دقيقًا للتحولات في ميزان القوى الدولي، وتُدرك أن منطق الدولة يجب أن يتفوق على منطق الانتظار.
ومما لا شك فيه، أن السياسة في عقل الملك محمد السادس ليست مجرد ردود أفعال، بل تصور شمولي للحركة في الزمن والمجال، بحيث أعاد المغرب إدماج البعد العربي والإسلامي ضمن إطار معقول ومتوازن، بعيد عن الشعبوية القومية أو الخطابات الطائفية، فالعلاقات مع دول الخليج لم تكن مبنية على الولاء الإيديولوجي، بل على قاعدة المصالح السيادية المتبادلة، والاستقرار المتقاطع، والوحدة ضد التدخلات الإقليمية. وقد برز المغرب بوصفه الدولة التي لا تتماهى مع المحاور، ولا تنخرط في النزاعات العبثية، بل تحفظ لنفسها مكانة الفاعل المستقل، المحاور، والوازن.
وقد تجلى تأثير هذه الدبلوماسية المتعددة الأبعاد، التي تُزاوج بين العلاقات العمودية (مع القوى الكبرى) والأفقية (مع الدول النامية)، على تصور فلسفي يرى أن السياسة ليست ساحة للولاءات المطلقة، بل فضاء ديناميكي لإنتاج الاستقلال في ظل الاعتماد المتبادل، وهو المعطى الذي جعل المغرب يُعيد تموضعه على خريطة العلاقات الدولية، ليس بوصفه دولة تابعة أو معزولة، لكن دولة ذات قاعدة استراتيجية تمتد من الأطلسي إلى المتوسط، ومن الكاريبي إلى الشرق الأوسط، مستفيدًا من رصيده الثقافي، وتماسكه الداخلي، وشرعية حكمه التاريخية.
لقد أنشأ الملك محمد السادس مدرسة دبلوماسية خاصة، لا تُشبه النماذج الكلاسيكية ولا تندرج ضمن القوالب الجاهزة، بل تُنتج خطابها، وتُحدد جدول أعمالها، وتُقاوم التبعية ببرودة عقل، لا بحرارة انفعال، مدرسة تعتبر أن لا تحالف أبدي، ولا عدو دائم، بل مصالح تتجدد، وتموضعات تتغير، ما دام الثابت هو السيادة، والمقدس هو القرار الوطني المستقل.
رغم أن الدبلوماسية المغربية ظلت، لعقود طويلة، حبيسة منطق الاستعلام وتراكم المعطيات، ولم تكن سوى جهازٍ يتفاعل مع الأحداث بصيغة رد الفعل، ضمن براديغم تقليدي لا يتجاوز منطق التكيّف، فإن الملك محمد السادس، منذ بداية حكمه، لم يقبل باستمرار هذا النمط القائم على الترقب والانتظار. بل سعى إلى تفكيك بنياته الرمزية والمؤسساتية، مُؤسسًا لمرحلة جديدة تنتقل من دبلوماسية الاستعلام إلى دبلوماسية الإنتاج والنجاعة. وهي نقلة لم تكن تقنية فحسب، بل فلسفية ومفاهيمية بامتياز.فمن خلال إعادة هيكلة الحقل الدبلوماسي، لم يعد السفير مجرد ناقل للرسائل أو ممثل بروتوكولي، بل أصبح فاعلًا استراتيجيًا، مؤهّلًا لتدبير معارك التأثير، وتثبيت السرديات الوطنية، وتفكيك منطق الخصوم في المنابر الدولية. وقد جاءت هذه التحولات بتوجيه مباشر من رأس الدولة، في خطاب صريح وواعٍ، حيث دعا الملك محمد السادس، في العديد من الخطابات، إلى أن تكون الدبلوماسية المغربية مرآة لقوة المغرب، لا صدى لموازين القوى الخارجية.
بيد أن العمق الأهم في هذه المرحلة الجديدة، يتجلى في تفعيل مفهوم إمارة المؤمنين في الدبلوماسية، ليس كمجرد لقب روحي، بل كوظيفة سيادية تتقاطع فيها المرجعية الدينية مع المقاربة الواقعية للعلاقات الدولية. لأن الملك محمد السادس، بصفته أميرًا للمؤمنين، لم يجعل من الدين أداة للاصطفاف، بل حوّله إلى آلية لبناء السلام، ومقاربة الحوار، ومواجهة التطرف، وكان لهذا التوظيف الراشد لإمارة المؤمنين أن يجعل من المغرب يفرض حضوره كمرجعية دينية معتدلة في إفريقيا وأوروبا، كما قاد إلى إنشاء مؤسسات مثل معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، والتي أصبحت مركزًا قارّيًا لتفكيك السرديات الجهادية المتطرفة، وإنتاج وعي ديني عقلاني، بعيد عن الغلو والتسييس.
إن فلسفة إمارة المؤمنين، كما صاغها الملك محمد السادس، تتجاوز بكثير الوظيفة العقائدية أو الطقوسية، لتصبح نظامًا أخلاقيًا يضبط التفاعل بين الدولة والدين، ويمنع التوظيف الانتهازي للعقيدة، ويُحصّن الفضاء العمومي من العدمية الإيديولوجية، ومنح هذا الفهم المركّب فرصة للمغرب بتقديم نفسه كدولة إسلامية تنتمي إلى العالم، لا تتقوقع داخل حدود الشريعة، ولا تذوب في العلمانية المسطّحة، بل تبني نموذجًا ثالثًا يستند إلى الأصالة لكنه لا ينفي الكونية، ويحترم التقاليد دون أن يُصادر الحريات.
وبالارتكاز على هذه المرجعيات الثلاث: إعادة هيكلة الفعل الدبلوماسي، إدماج المرأة كفاعل رمزي وسياسي، وتفعيل إمارة المؤمنين كضامن أخلاقي وروحي، تمكن المغرب من التحول من مجرد متفاعل مع العالم إلى مُنتج لتصورات جديدة في السياسة الخارجية، تُزاوج بين البراغماتية والنزاهة، بين المصالح والرمزية، بين الفاعلية والاتزان، كما أن خطاب العيش المشترك، الذي يعتمده الملك محمد السادس، ليس ترفًا أخلاقيًا، بل هو خيار استراتيجي، يُحاصر خطابات الكراهية، ويُنتج مناعة جماعية ضد التطرف، ويُحول التنوع إلى قوة دفع دبلوماسي.
وقد أدرك محمد السادس أن القوة اليوم ليست فقط في عدد الجيوش، أو حجم الاقتصاد، بل في القدرة على إنتاج سردية موحدة تُقنع الداخل وتُربك الخارج، ومن هنا جاءت الدبلوماسية المغربية في عهده كمحاولة واعية لإعادة تعريف مفهوم الدولة القوية، لا بوصفها دولة البطش أو الردع، بل دولة العقل، والرؤية، والاتساق.
ختاما، لم تعد الدبلوماسية المغربية حقلًا منفصلًا عن باقي أنسجة الدولة، بل أصبحت تتغذى من الإصلاحات الداخلية، وتُسهم بدورها في تأمين الاستقرار، وجذب الاستثمارات، وخلق التوازنات في محيط إقليمي ودولي مضطرب. وبين دبلوماسية الواقع، ودبلوماسية القيم، تموقع المغرب كفاعل مستقل، سيادي، وهادئ، يفاوض من موقع قوة هادئة، لا ضجيج فيها، ولا عدوان، لكنها لا تساوم على الحق، ولا تتراجع عن الثوابت.






