في المغرب، حيث تتقاطع الذاكرة النضالية مع رهانات التحول والانتقال، لا يمكن فصل الاحتجاج عن البناء الديمقراطي الاجتاعي والسياسي. إنه ليس فقط تعبيرًا عن الغضب، بل استمرارٌ لنضال الأجيال التي انتزعت بعض الحقوق السياسية والاجتماعية عبر عقود من الكفاح. لكن حين ينزاح هذا الفعل النبيل نحو التخريب، تُهدد كل تلك المكاسب، ويُفتح الباب أمام انهيار المعنى السياسي ذاته، وتُطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل التعاقد الاجتماعي.
الاحتجاج كفعل تأسيسي للديمقراطية
الاحتجاج هو لحظة تأسيسية في كل ديمقراطية حية. كما يقول شارل تايلور، إذ أن الهوية السياسية لا تُبنى فقط عبر المؤسسات، بل عبر الاعتراف المتبادل بين الدولة والمواطن، الحقوق والواجبات. حين يحتج الشباب المغربي اليوم، فهم لا يرفضون الدولة، بل يطالبون بدولة تعترف بهم، تصغي لهم، وتعيد ترتيب أولوياتها وفق حاجاتهم
جيل ز الذي خرج في شوارع الرباط والدار البيضاء وطنجة...، لا يطالب بالرفاه، بل: بالكرامة، بتعليم يليق بالذكاء المغربي، صحة تحفظ الحياة، ومؤسسات لا تُدار بمنطق الريع. هذه المطالب ليست جديدة، لكنها اليوم تُطرح بلغة رمزية جديدة، وبأدوات رقمية عابرة للوسائط التقليدية
التخريب : نفيٌ أخلاقي للمعنى السياسي
حين يتحول الاحتجاج إلى تخريب، يُفقد المعنى الديمقراطي الأخلاقي للنضال. لا يعود الأمر تعبيرًا عن أزمة، بل يصبح تهديدًا مباشرًا للمجتمع. تدمير الممتلكات العامة لا يضرب فقط البنية التحتية، بل ينسف الثقة، ويُضعف شرعية المطالب، ويمنح مبررًا للقمع
لكن من يرتكب التخريب؟ تشير المعطيات إلى أن كثيرًا منهم قاصرون، ضحايا منظومة تربوية مفككة، وأسر منهكة، وبطالة مستشرية طالت الجميع: من ضحايا الهدر المدرسي إلى حملة الشواهد العليا. هؤلاء لا يملكون أدوات التعبير، ولا لغة المطالبة، ولا أفقًا واضحًا. هم أبناء الفوارق المجالية، حيث تُعامل القرى كهوامش، وتُوزع الموارد داخل الجهة الواحدة بمنطق تمييزي يُعمّق الإحساس بالحكرة والظلم
كما أن تراجع أدوار دور الشباب، وغياب التأطير الجمعوي الجاد، جعل هؤلاء عرضة للفراغ، وللاختراق الرقمي عبر منصات مثل تيك توك وديسكورد، التي تُستخدم أحيانًا للتحريض أو التشويش، دون أي حماية أو توجيه. وفوق ذلك، فإن تفشي الفساد واختراقه للمؤسسات يُعمّق الإحساس باللاجدوى، ويُضعف الثقة في الدولة، ويُحوّل الغضب إلى فوضى
المنصات الاجتماعية : بين شرعية النضال الرقمي ومحدودية الحوار أو التفاوض
لا يمكن إنكار أن الوسائط التكنولوجية الحديثة قد فتحت أفقًا جديدًا للنضال الديمقراطي. فالاحتجاجات السلمية التي شهدها المغرب، خاصة تلك التي انطلقت من منصات رقمية، كانت في كثير من الأحيان منظمة، عقلانية، ورافعة لشعارات واقعية تعبّر عن مطالب عامة يتقاسمها جميع المغاربة: الكرامة، العدالة، الإنصاف، هذه الاحتجاجات، وإن اتسمت أحيانًا بعمومية الشعارات وفضفاضتها، إلا أنها تُجسد يقظة سياسية جديدة، وتُعيد تشكيل المجال العمومي خارج الوسائط التقليدية. إنها احتجاجات رقمية تُمارس حق التعبير، وتُعيد الاعتبار للسياسة كفعل يومي، كما أشار الفيلسوف الإيطالي فرانكو بيراردي حين تحدث عن "الذات الرقمية كمجال جديد للوعي الجماعي"
لكن هذه الشرعية لا تُلغي مشكلة حقيقية تهم قناة التواصل إذ لا يمكن التفاوض مع حسابات مجهولة، أو وجوه مقنعة، أو داخل منصات إلكترونية لا تضمن الاستمرارية ولا تحمل المسؤولية. فالديمقراطية لا تُبنى على التشفير، بل على الوضوح، ولا على التفاعل اللحظي التقني، بل على الذكاء التفاوضي ومبدأ الالتزام
وهنا يُطرح السؤال الجوهري: وأي شكل نضالي آخر بعد هذا؟ أمام اشتداد الاختناق الاجتماعي، وتزايد التخريب، ولجوء الدولة إلى ما تعتبره "عنفًا مشروعًا"، كيف يمكن إعادة بناء فعل احتجاجي يُحاور ولا يُدمر، يُفاوض ولا يزايد، يُراكم ولا يُفرط؟
الجواب بالطبع لا يكمن في رفض المنصات، بل في تجاوزها نحو انخراط فعلي في العمل السياسي: تنظيرًا، وتنظيمًا، وممارسة يومية. فالنضال لا يُختزل في لحظة غضب، بل يُبنى عبر مؤسسات، أحزاب، جمعيات، ومبادرات مدنية تُراكم الخبرة وتُؤسس لشرعية نضالية مبدعة ومجددة
إن الديمقراطية لا تُستورد بخصوصياتها البرانية، بل تُبنى من الداخل، عبر تربية سياسية تُعيد الاعتبار للمواطنة وللخصوصيات المحلية والمجالية، وتُحوّل الاحتجاج من رد فعل آني إلى فعل تأسيسي مستقبلي حاسم (2026 انتخابات )
ماذا يمكن اقتراحه؟
إطلاق خطة استعجالية لإصلاح الخدمات الاجتماعية في الصحة والتعليم والتشغيل، مع جدول زمني واضح ومراقبة صارمة مستقلة.
تفعيل خلاصات وتوصيات المجالس الدستورية :وعلى رأسها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الذي راكم تقارير دقيقة حول الفوارق المجالية، البطالة، والتعليم، والعدالة الاجتماعية.
إصلاح شامل وجذري للإعلام الرسمي ليكون إعلامًا عموميًا مواطنًا، يُصغي للناس، يُواكب التحولات، ويُعيد الثقة في الخطاب المؤسساتي ويعرف ويدافع عن قضايا الوطن المصيرية.
فتح فضاءات الحوار العموميي: الجامعات والمجالس المحلية، لإشراك الشباب في صياغة السياسات الشبيبية.
ضبط المنصات الرقمية دون قمع عبر تشريعات تحمي الخصوصية وحرية التعبيرو وتمنع التحريض والنصب.
إعادة تأهيل الوساطة السياسية عبر إصلاح الأحزاب والنقابات وربطها فعليًا بمهام تنظيم وتأطيرالمجتمع.
دعم الإعلام المستقل والمحتوى التوعي ليكون وسيطًا نزيهًا بين الدولة والمجتمع .
إحياء دور الشباب والمراكز الثقافية لتكون فضاءات للتأطير والتعبير ، لا مجرد بنايات مهجورة.
الاستقرار والأمن : حق إنساني ومطلب حضاري
الاستقرار ليس نقيضًا للاحتجاج، بل شرطٌ له. لا يمكن لمجتمع أن يُطالب بحقوقه دون أمن يحميه، ولا يمكن لدولة أن تُنصت دون مؤسسات قوية. كما يقول جون رولز، ذلك أن العدالة لا تُبنى في الفوضى، بل في نظام يُتيح لكل فرد أن يُعبّر عن حاجاته دون خوف.
لكن هذا الاستقرار لا يُختزل في الأمن المادي فقط، بل يشمل الأمن النفسي، الاجتماعي، والاقتصادي،مجتمع قوي يتطلب دولة وطنية قادرة على الإنصات التفاعلي، على بناء تعاقد اجتماعي متجدد، يُراكم التجربة، ويُعيد توزيع الثروة، ويُصغي لطموحات الأجيال المتعاقبة.
دولة لا تكتفي برد الفعل، بل تُبادر بالفعل، وتُحوّل الغضب إلى طاقة إصلاح، والاحتجاج إلى أفق بتعاقد سياسي جديد مقدمته الأساسية شروط ومعايير إجراء الانتخابات القادمة2026
لا تناقض بين المطالبة بالإصلاح وتثمين المشاريع الكبرى
من الخطأ السياسي أن يُفهم الغضب الشعبي على أنه رفض للمشاريع القارية والعالمية التي يستعد لها المغرب، مثل كأس إفريقيا للأمم ومونديال 2030. هذه التظاهرات ليست فقط رياضية، بل هي رافعة اقتصادية واجتماعية وثقافية، إذا ما أُعد لها وفق تصور مجتمعي شامل.
إن التنمية ليست في البنية التحتية فقط،على أهميتها القصوى، بل في توسيع قدرات الناس على أن يعيشوا الحياة التي يختارونها. لذلك، فإن الاستثمار في الملاعب يجب أن يُرافقه استثمار في الإنسان في المدرسة والمستشفى والسكن والماء والقرية...
المطالبة بالإصلاح لا تعني تبخيس المشاريع الكبرى، بل تعني جعلها جزءًا من رؤية متكاملة تُعيد توزيع الثروة، وتُعزز العدالة المجالية، وتُحول المغرب إلى بلد لا يكتفي باستضافة العالم، بل يُنصت لأبنائه أولًا
خاتمة : من الغضب إلى التأسيس
إن الاحتجاج ليس لحظة عابرة في مرحلة تاريخية انتقالية يجتازها المغرب، بل فعل تأسيسي يعيد طرح سؤال الدولة والمجتمع. التخريب ليس فقط تدميرًا للبنية التحتية بل المجتمعية ، وتهديد حقيقي للسياسة كمعنى. أما المنصات الرقمية فهي ليست عدوًا، بل أداة تحتاج إلى تأطير وإلى حماية سيبيرانية شاملة. والمشاريع الكبرى ليست ترفًا، بل فرصة مشروطة بالعدالةالاجتماعية والمجالية
إن المغرب اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يعتبرالاحتجاج آداة ومدرسة ديمقراطية، و تيرميموتر سياسي، أو التنكر له وتركه ينزلق نحو الفوضى التي لا تخدم إلا أعداء التغيير والديمقراطية وللوطن. والمطلوب ليس فقط إصلاح السياسات، بل تجديد التعاقد الاجتماعي، وإعادة بناء الثقة، وتأسيس وطن يُصغي لأبنائه، ويُراكم نضالهم، ويُحول غضبهم إلى مستقبل واعد.






