تحليل

بين الشرعية الانتخابية والسلطة التقديرية للملك: حدود الإعفاء في ضوء الفصل 47 من دستور 2011

سليمة فرجي ( محامية)

 

منذ إقرار دستور 2011، والممارسة الدستورية في المغرب تثير نقاشًا عميقًا حول التوازن الدقيق بين الشرعية الانتخابية التي تُفرزها صناديق الاقتراع، والسلطة التقديرية للملك بصفته رئيس الدولة وضامن السير العادي للمؤسسات الدستورية، كما نص على ذلك الفصل 42. ويتجلى هذا النقاش بوضوح عند طرح سؤال جوهري:

هل يحق للملك إعفاء رئيس الحكومة، رغم أن الفصل 47 ينص على أنه يُعيَّن من الحزب السياسي الذي تصدّر نتائج انتخابات مجلس النواب؟

سؤال يعيد إلى الواجهة طبيعة النظام الدستوري المغربي، وحدود التأويل في ممارسة السلطة التنفيذية بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة.

أولاً: منطق التعيين والشرعية الانتخابية و ينص الفصل 47 من دستور 2011 على أن:

“الملك يُعيّن رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدّر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها.”

وهو مقتضى يجسد إرادة المشرّع الدستوري في ترسيخ الشرعية الانتخابية كمنطلق للتعيين، والقطع مع منطق التعيين المطلق الذي كان سائدًا قبل 2011. فالتعيين هنا ليس اختيارًا حرًا، بل مقيد بإرادة الناخبين التي أفرزت الحزب المتصدر، مما يعكس تحوّلًا تدريجيًا نحو عقلنة الممارسة الديمقراطية.

سلطة الإعفاء بين النص والممارسة:

نفس الفصل اي 47 من دستور المملكة يضيف في فقراته التالية أن للملك، بمبادرة منه وبعد استشارة رئيس الحكومة، أن يعفي عضوًا أو أكثر من أعضاء الحكومة من مهامهم.

لكن النص لم يشر صراحة إلى إمكانية إعفاء رئيس الحكومة بمبادرة ملكية، مما فتح باب التأويل.

غير أن التجربة العملية أبرزت سابقة ذات دلالة دستورية سنة 2017، حين قرر الملك محمد السادس إعفاء عبد الإله بنكيران من رئاسة الحكومة، بعد تعثر تشكيلها لأكثر من خمسة أشهر.

وقد تمّ التأويل الدستوري لهذا الإجراء باعتباره إعفاءً استثنائيًا مبررًا بضرورة ضمان السير العادي للمؤسسات، لا إلغاءً للشرعية الانتخابية، والدليل أن الملك عيّن خلفًا له من نفس الحزب المتصدر ( الدكتور سعد الدين العثماني).

وبذلك، تجسدت قاعدة مفادها أن الإعفاء من رئاسة الحكومة ممكن في حالات التعثر أو الإخلال الواضح بالسير العادي للمؤسسات، دون المساس بحق الحزب المتصدر في اقتراح خلف من داخله.

علما أنه بخصوص السلطة التقديرية للملك فرغم أن الفصل 47 لم يمنح صراحة للملك سلطة “إعفاء” رئيس الحكومة بمحض إرادته، فإن الفصل 42 يخول له صلاحية السهر على حسن سير المؤسسات الدستورية.

ومن هنا، تُفهم سلطة الإعفاء كآلية دستورية استثنائية، يمارسها الملك حين يتهدد السير العادي للمؤسسات أو تتعطل المفاوضات السياسية أو يتعذر تشكيل الحكومة.

لكن هذه السلطة ليست مطلقة، إذ يظل الملك ملزمًا باحترام روح الفصل 47، أي التعيين من نفس الحزب المتصدر للانتخابات، حفاظًا على مبدأ الشرعية الديمقراطية، وتوازن السلط، واستمرار الثقة في العملية الانتخابية

ولعل التأويل الديمقراطي للدستور و القراءة الديمقراطية  له تقتضي أن يكون الاختيار الشعبي هو الأصل، والسلطة التقديرية هي الاستثناء،

فإرادة الأمة المعبّر عنها عبر صناديق الاقتراع تشكل أساس المشروعية، بينما تمثل الملكية الدستورية الضامن لاستمرارية الدولة واستقرارها.

وهذا التوازن بين الشرعية الانتخابية والشرعية الملكية هو ما يمنح للنظام السياسي المغربي خصوصيته، ويُبعده عن منطق التنازع انتصاراً  لمنطق التكامل والانسجام.

ولعل التفسير  القانوني لمقتضيات الإعفاء تحيلنا على مقتضيات الفصل 47 الذي يفرّق بين حالتين أساسيتين:

 1. إعفاء عضو من الحكومة:

الملك يمكنه، بمبادرة منه وبعد استشارة رئيس الحكومة، إعفاء وزير أو أكثر.

أو بطلب من رئيس الحكومة نفسه.

 2. إنهاء مهام الحكومة كلها (بما في ذلك رئيسها):

و لا ينص الدستور صراحة على “إعفاء رئيس الحكومة” بمبادرة ملكية منفردة،

بل يشير إلى إمكانية إنهاء مهام الحكومة ككل، وفق آليات دستورية خاصة، مثل:

 • الاستقالة الطوعية لرئيس الحكومة؛

 • أو التصويت ضدها في مجلس النواب (ملتمس الرقابة – الفصل 105)؛Motion de censure

 •أو إعفاؤها بسبب عدم الانسجام أو فشل التشكيل (كما وقع في حالة “البلوكاج الحكومي” سنة 2017).

إلا ان الفصل 42 من الدستور كما أشرت إلى ذلك أعلاه  ينص على أن الملك يمارس  صلاحية ضمنية مستمدة من حرصه على ضمان السير العادي للمؤسسات

ختاما نستنتج  أن إعفاء رئيس الحكومة ممكن دستوريًا في حالات محددة تفرضها اعتبارات موضوعية مرتبطة بتعثر المؤسسات أو إخلال خطير بمقتضيات السير العادي لها،

لكن بشرط أساسي يتمثل في تعيين خلف من نفس الحزب المتصدر للانتخابات، حفاظًا على روح الفصل 47 ومبدأ الإرادة الشعبية.

وبذلك يظل الملك، وفق الدستور، يمارس سلطة تقديرية مقيدة بالمصلحة العامة، في إطار نظام ملكي دستوري ديمقراطي برلماني يقوم على التعاون بين المؤسسات، لا على التنازع أو التداخل في الاختصاصات.