" اجذَبْ اجذَبْ .. يا البَرْكَي يا عريس الخيل .. اجْذَب اجذَبْ .. شحال هذا ما جذَبْتي شَايْ .."
أتحدث هنا عن عيطة " الحداويات " الشهيرة .
أذكر في طفولتي أن الأعراس في درب السلطان بالدارالبيضاء كانت لا تبدأ إلا بعيطة " الحداويات " . عيطة تخفي بين كلماتها قصة حب جميلة . بين شاب من آسفي و شابة من الدارالبيضاء . القصة بدأت بخلاف بسيط ، كان الشاب مدعوا إلى أحد الحفلات الخاصة لكنه لم يخبر حبيبته بذلك و لم يأخذها معه .
و حين علمت بذهابه إلى الحفلة بدونها حز هذا في نفسها، خصوصا أنها هي بدورها كانت مدعوة . لكنها لم تذهب . ظنا منها أن حبيبها لم يتوصل بالدعوة و لن يذهب هناك . عندما تلتقي الفتاة بحبيبها ، تعاتبه ، و كأنها تقول له ، لماذا لم تخبرني بأنك ذاهب إلى الحفل و لماذا لم تأخذني معك ، هل تستعير مني ، أم أنك تراني دون المقام . ليكن في علمك أنني حداوية و أن كل الحداويات مكمولات الجمال و يُهَيِّجْنَ قلوب من ينظر إليهن .. " الحداويات كاملات ( من الكمال ) .. الحداويات كاملات ايْهَيْجوا .. كون اعْلَمْتيني يا سيدي .. الرقاص اللي جاك جاني .. كون اعلمتيني ياسيدي ما يكون باس .. ( ماكان هذا الخلاف سيكون بيننا لو أخبرتني . فالمرسول الذي دعاك للحفل قد وجه إلي أنا كذلك الدعوة ) .. " سير الله يبليك ما بلاني و تجرب حالي .. ليام تلاقينا يا سيدي و إلى ما جابك الرباط ( أي الحب الذي بيننا ) .. يجيبك ربي .. ( القدر كفيل بأن يجمع بيننا ) ..
بعد كل هذا العتاب تحاول جس نبضه إن كان نظره قد ذهب إلى فتاة أخرى غيرها .. "مول الزين .. أوين أوين .. عينو فين .. أوين أوين .. " . وحينما أحس حبيبها أن نبرة العتاب أخذت تتصاعد . حاول تلطيف طبيعة الحوار . فخاطبها بكل لين و رقة .. " أنت الحاكمة و أنا ليك التاج .. أنت الحاجة و أنا سيد الحاج .. أنت البحر و أنا ليك امواج .. " . و بدل أن تعاتبه سيبدأ هو في معاتبتها .. " عليك بالزيارة و ما زرتي شاي .. " لقد سبق له و أن وجه إليها الدعوة كي تزوره في مدينة آسفي . لكنها لم تلبي دعوته . وفي هذا المقطع من الغناء سيذكر لها أسماء بعض صلحاء آسفي .. ( الشرفاء الغنيميين .. سيدي أحمد بن عباد .. سيدي كانون .. مول البركي .. خلاصة القول " رجال البلاد " ، " رجال سحَيْم ) و دائما يكرر على مسمعها " عليك بالزيارة و ما زرتي شاي " .. إن نبرة اللوم و العتاب المتبادل بين الحبيبين لن تستمر طويلا . لأنه سيعلن لها أنه سيتزوجها .. " التهامي يا سيدي أحمد دارالضمانة " . هذه هي الإشارة إلى أنه سيتزوجها .
ألا نردد نحن المغاربة دائما في الأعراس و حفلات الزفاف العبارة التالية " شيلاه آ دار الضمانة .. قبة عالية و عروسة مزيانة " . إن الفتاة بعد سماعها لهذا الخبر المفرح تحاول الإعتذار عن الكلام الذي سبق و أن قالته .. " واش درت أنا .. أنا مالي ( ماذا فعلت ) تكايس اعليا يا لهوى .. ( رِفْقا بحالي يا حبيبي ، إن ما حملني على قول كل هذا الكلام ، هو أنني لم أقوى على فراقك ) .. " فراق احبيبي .. جاني صعيب .. " . ثم إن سفري إلى آسفي لم يكن أمرا عسيرا .. " أيلي يا يلي ، مال طريقهم جاتني بعيدة ( تقصد طريق رجال سحيم ) .. واهيا .. واهيا .. سير ما بيديشاي عليك .. ( إنني لم أجد لك عذرا لأنك لم تسأل عني طول هذه المدة ).. " الله يا سيدي .. ما صبرتي .. ما كابرتي .. " . و هكذا بعد أن ارتاح البال و الخاطر تنتهي عيطة الحداويات بدعوة الفتاة للرقص طربا و فرحا . الجميل في هذا المقطع هو أن الشاب يخاطب حبيبته و يدعوها للرقص و يشبهها بالفرس و في هذا يتم توظيف بعد دلالي عميق يستمده من جذور منطقة آسفي . حيث المعروف تاريخيا عن الولي الصالح المجاهد الذي حارب البرتغال الشيخ سيدي عبدالرحمان بن رحال الدليمي المشهور عند أهل آسفي ب " مول البركي " نسبة إلى فرسه الجميلة التي كان يسميها " الشهيبة " و التي من شدة حبه لها دفنها في المكان الذي ماتت فيه . يقول الشاب المسفيوي لحبيبته الحداوية " اجذب اجذب يا البركي يا عريس الخيل ( قال الرسول (ص) يُمْنُ الخيل في شُقْرِها ) . اجذب اجذب .. شحال هذا ما جذبتي شاي .. اجذب اجذب يا الصردي يا بو فَرْدي .. " ( الصردي أي يا جميلة العينين ، لشدة البياض و السواد ، و هذه العبارة تتكرر كثيرا في قصائد الملحون .. أما معنى " بو فردي " فهي إشارة إلى أنها كانت تلبس سوارا واحدا من الذهب " . تنتهي العيطة بتوجيه الشكر من طرف المنشدين لبطل القصة على حسن صنيعه مع حبيبته ، حيث لم يتخلى عنها .. " ما يتسالوك شاي آ لَمْعَلَّم .." ثم يطلبون منه أن يحضن حبيبته و يذهبا معا .. " على ربي حُزْها و ادِّيها " .. إن كل الذي ضاع من العمر ، يمكن أن يُعَوَّض .. " اللي مشى ايْوَلِّي " . أعتقد أن هذه هي أول مرة يتم فيها تفسير عيطة الحداويات و أتمنى أن أكون قد توفقت في ذلك .






