من منطلق الحرص على المبدأ العام في التشريع، المتمثل في إقامة العدل بين الناس ورفع الظلم عنهم، الذي حرمه الله على نفسه وجعله محرما بين عباده، نعتبر أن النهي عن قهر المرأة وظلمها يستلزم إصدار نصوص قانونية حمائية تجعل منها طرفا مشاركا في المسؤولية الزوجية والأسرية.
ومن منطلق البحث عن تحقيق مصالح الناس المتغيرة بتغير الشروط والأحوال، نعتبر أن مصالح المرأة، والتي هي مصالح مشتركة بينها وبين الرجل والأولاد داخل الأسرة، تكمن في ضمان حقوقها كاملة غير منقوصة، وبشكل متساو مع الرجل.
ومن منطلق رفع المشقة والحرج على المكلفين في الفعل والترك، فإن النهوض بأوضاع المرأة داخل العلاقة الزوجية يعد من صميم رفع المشقة والحرج، لئلا تصطدم المصالح المجتمعية المتغيرة والمتجددة باستمرار بالنصوص التشريعية، ولئلا يحسب هذا الاصطدام على المرجعية الدينية ذاتها، بدلا من احتسابها على المتقاعسين في بذل الجهد واستفراغ الطاقة والبحث والاجتهاد لإيجاد حلول ملائمة وفق منظور مقاصدي عام.
فالنساء شقائق الرجال في الأحكام، وهو ما يدعم رعاية الزوجين لهذه العلاقة على قدر المساواة فيما بينهما، وفق منطق التسيير والتدبير التشاركي. ويكفي اعتبار ذلك فهما متجددا للواقع والنصوص للمساهمة في تطوير البناء الأسري والمجتمعي، دون التنغيص على الاجتهاد والنقاش والتداول بين الناس بسيف تعطيل النصوص الشرعية.
فما كان لهذا السيف بكل قوته وحدته أن يقف في وجه تعطيل نصوص عتق الرقبة وما ملكت الأيمان ولا إسقاط الولاء وبيت المال من عقد الإراثة ولا إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم ولا تعطيل حد السرقة والزنى، بقدر ما كان كل ذلك تعبيرا عما حققته الإنسانية من قفزة نوعية وهائلة بقضائها على العبودية والنخاسة والحط من كرامة الإنسان، بإعلاء شأن وقيمة الاجتهاد بناء على المصلحة المجتمعية والمقاصد التشريعية العامة.
وكذلك هو أمر القوامة، الذي أجاز به الفقهاء في وقت من الأوقات تكليف الرجال بأمور النساء وشؤونهن في سياق مفهوم الرعاية الأحادي الجانب، بناء على تأويل وتوظيف نصوص شرعية، والذي تضغط به اليوم القوى المحافظة لتكريس مفهوم الأسرة الذكورية ولعرقلة المحاولات الهادفة إلى التطوير والتغيير.
إن مفهومي الحفظ والائتمان اللذان يدخلان في صميم رعاية العلاقة الزوجية والأسرية، ومفهوم المسؤولية بما تعنيه من مطالبة بالقيام بالمهام والالتزامات، كل ذلك ينبغي أن يحمل على تكليف الزوجة والزوج، كحافظين للأسرة ومؤتمنين عليها ومسؤولين عن شؤونها ومكلفين بكل ما يتعلق بها، بما منحهما الله من عقل وقدرة على التدبير وخصهما به من كسب وإنفاق كما هو الحال في عصرنا هذا.
وهو الفهم الذي يتعارض مع مفهوم القوامة كما ترسخ في عقلية الفقهاء بفعل التفكير في تنويع أساليب الخضوع للطاعة والتأديب التي مارسها الزوج على الزوجة من هجر وعدم إنفاق وضرب وتنكيل وحرمان من زيارة الأهل واستزارتهم، وبفعل الحرص على تأكيد إلزام المرأة بالإحصان والعفاف، وغير ذلك من التصرفات المشينة والمهينة والحاطة من الكرامة.
فحري بنا الإشارة إلى أن العلاقة الزوجية هي جزء من نظام اجتماعي يتغير بتغير شروطه وظروفه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وبالتالي فهي تعرف اليوم تحولات عميقة ترخي بظلالها على حياة الأفراد؛ من حيث التراجع في المستوى المعيشي والعجز عن توفير تكاليف الحياة المرتفعة وتعاظم المطالب المادية، مما يدفع بالناس إلى الهروب من الحياة الزوجية أو الاضطرار إلى التقصير في القيام بالمسؤوليات الأسرية أو الوصول إلى نفق حل عقد الشراكة وإنهاء العلاقة الزوجية والتخلص من تبعاتها.
ومن باب ضرورة البحث عن حل النزاعات والمشاكل القائمة داخل العلاقات الزوجية، ومن ناحية أهمية ربط هذه العلاقة بنوعية النظام الاجتماعي الذي تنتظم في إطاره، على المشتغلين بهذا المجال سواء من جانب التنظير أو التشريع إدراك أسباب زعزعة استقرار هذه العلاقة التي تعددت بفعل تعدد وتنوع العوامل المرتبطة بالتحولات الجارية اليوم.
فالقضية لا ترتبط فقط بالأفراد من حيث نموهم الحركي والحسي والعاطفي والعقلي، ولا فقط بما تلقاه كل منهم من تكوين في إطار التنشئة الاجتماعية والتربية القيمية والتكوين المعرفي والعلمي، بل هي شديدة الصلة بأوضاعهم المادية التي أصبحت تطرح أكثر من علامة استفهام حول "تواضع" دخل الأسرة فيما يخص عجزه عن تلبية الاحتياجات، وإلزام الأزواج وحدهم بالنفقة دون الزوجات، وتقتير البعض وتقشفه في الإنفاق على الزوجة والأولاد..
بل تذهب الأمور إلى حد بروز ظواهر كثيرة متعلقة بارتفاع تكاليف الزواج، والخوف من السقوط في الفقر والعوز، والضوائق المالية التي أصبحت تعرفها العديد من الأسر، وتوجه الرجال نحو الاقتران بنساء ذوات مال أو وظائف للتغلب على مصاعب الحياة..
وهو ما أفرز حرص بعض الزوجات على حماية أملاكهن من اعتداءات أزواجهن في أوساط بعض الفئات الاجتماعية، وإلى ظهور الكثير من المشاكل ذات الصلة بظروف السكن غير الملائمة في أوساط فئات أخرى؛ كالاكتظاظ والتكدس وعدم توفير سبل الراحة الزوجية والتربوية، وتكاثر أسباب رفض الزوجات للسكن مع أبوي الزوج...
وهو الوضع الذي أدى إلى نوع من الجموح الطائش حين امتد إلى وجود الكثير من المشاكل المرتبطة ببلوغ بعض الأزواج أرذل العمر مع زوجات في مقتبل عمرهن، وبالتصرف في أموال اليتامى، وبرغبة الأزواج في التعدد التي لم تعد محصورة في الميسورين ماديا بل تعدتهم إلى المستضعفين من عموم الناس الذين لا يقوون حتى على إنجاح العلاقة الواحدة، وبالتحايل على الشرع والقانون بالسرية والتكتم في الإقدام على التعدد بواسطة قراءة الفاتحة، وبتزايد المشاكل الناجمة عن ظاهرة الخيانة الزوجية في ظل عدم استقرار العلاقات الزوجية.
دون التغاضي طبعا عن سوء الخلق وقبح المعاشرة في ظل اهتزاز المنظومة القيمية، ومعاناة الزوجات من مجون بعض الأزواج وتفرغهم لأمور هادمة للاستقرار الأسري، وإنكار الأزواج للأولاد ولحمل زوجاتهم، وتشهير الزوجين ببعضهما البعض والتطاول على بعضهما باللسان على مرأى ومسمع من الأولاد وبين الأهل والجيران، وغياب الأزواج عن الأسرة للعمل أو التجارة أو الإهمال، والاغتصاب الزوجي الذي تكاثر حضوره في العلاقات الزوجية، والحرمان من الاختيار والتكافؤ والرغبة عند عقد القران، والإمعان في حجز الزوجات والمبالغة في حجبهن وتدجينهن داخل البيوت، وكره الأزواج صغار السن وعديمي الدخل لزوجاتهم بسبب الإكراه والإجبار على الزواج، وعدم الرغبة في إنجاب الأولاد أو الإكثار منه، ومنع المرأة من العمل والتكسب من أجل سد الخصاص المادي، وامتناع الزوجات عن خدمة آباء وأمهات الأزواج ...
ونظرا لتعدد وتنوع هذه العوامل وغيرها، وما تنتجه من مشاكل زوجية تلقي بالأفراد في بحر من اليأس والقنوط من العلاقات الزوجية بصفة خاصة وأوضاعهم الاجتماعية بصفة عامة، لم تعد الزوجات ولا الأزواج في الكثير من الحالات على استعداد للسمو والارتقاء الأخلاقي والاتصاف بسعة الصدر وعظيم الحلم وجميل الصبر وبليغ العفو.
وبدل تملك الغضب والصبر على السوء وعدم الانجرار إلى التوتر، أخذت ردود أفعال الزوجين تتسم باللجوء إلى السلوك اللفظي المشين مثل التناوش الكلامي والتلاسن، واتخاذ الأزواج لوسائل زجرية أو تأديبية كالخصام والتأنيب والهجر واجتناب الأكل أو التضييق، وتعنيف الزوجات عن طريق الإهانة والضرب المبرح، وعصيان الزوجات لأوامر الأزواج والرغبة عن فراشهم والاستخفاف برجولتهم والإمعان في إهانتهم، وبالتالي اللجوء إلى طلب التطليق، وقد تشكل إقامة علاقات غير شرعية خارج نطاق الزوجية سلوكا انتقاميا أو متنفسا في العديد من الحالات.
فما عاد الفهم التقليدي للزواج الذي كان معتبرا في وقت من الأوقات، والذي لا يعير اهتماما اليوم لهذه العوامل ولا للاجتهاد من أجل تجاوز أوضاع العلاقة الزوجية، يسعف في تدبير العلاقة الزوجية في هذا العصر، بالنظر إلى الظروف والشروط الاقتصادية والاجتماعية والقيمية المتحولة والمتغيرة بشكل متسارع، وهو ما أصبح يفرض الوقوف في وجه الضغوط التي تمارسها القوى المحافظة داخل المجتمعات الإسلامية.
وبقدر ما تقتضي الضرورة اليوم إسناد حق التعاقد إلى المرأة مثلها في ذلك مثل الرجل، والتنصيص على حقها في مباشرة عقد الزواج، وحصولها قانونيا على نفس الصلاحيات والشروط المنصوص عليها بالنسبة للرجل، يلزم دعم العلاقة الزوجية والأسرية من طرف مؤسسات الدولة بالعديد من الإجراءات والتدابير المرتبطة بالنهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية للأفراد داخل المجتمعات، لتمكينهم من القيام بالأعباء والمسؤوليات المادية والمعنوية والحصول على مقومات الاستقرار الأسري.
فلا محيد عن توفير الشغل للمواطنات والمواطنين وانتظامه، وضمان استقرارهم فيه بشروط تكفل كرامة العيش بين أقاربهم. ولا مهرب من تمكينهم من حماية اجتماعية قادرة على توفير شروط الاطمئنان لديهم فيما يخص القدرة على امتلاك سكن لائق وتغطية صحية جيدة ونظام تعليمي وتربوي في مستوى طموح الارتقاء بالعلاقات الزوجية والأسرية وبأوضاعها المادية والتربوية، التي ينبغي أن تكون مُسهمة في المجهود التنموي الوطني الشامل والمستدام داخل هذه البلدان.
وبهذا المنظور يمكننا ولوج عالم الاجتهاد من أبوابه الشاسعة وفق مقاصد تشريعية مساهمة في تحيين القواعد القانونية ومساطر أجرأتها، بإدراك واع لصعوبة هذه المهمة التي لا تعفينا من مسؤولية مباشرة القيام بالواجب، في إطار تغيير الفكرة المتجذرة حول النساء ككائنات دونية. وهو ما يقتضي نفسا عميقا واجتهادا رصينا واقتراحات عملية دقيقة ودالة وواضحة، لضمان مساواة بين البشر وعدل في تقدير ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات.