في خطوة إنسانية بقدر ما هي سياسية، شرع المغرب، بأمر من محمد السادس، في نقل 180 طناً من المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة، عبر جسر جوي يصل إلى مطار بن غوريون، ومنه تُنقل الشحنات برا إلى القطاع المحاصر. هذه المبادرة تكتسي رمزية قوية، ليس فقط بحمولتها الغذائية والطبية، بل بالرسائل التي تبعث بها إنسانياً، وسياسياً، ودبلوماسياً في ظرف إقليمي حساس.
-1إنسانياً: عندما تتقدم الأفعال على الأقوال
بينما يعيش أكثر من مليوني فلسطيني في غزة تحت الحصار والجوع، ويُحرمون من أبسط مقومات الحياة، تأتي هذه المبادرة المغربية لتمنح جرعة أمل. فالدعم الإنساني الحقيقي يُقاس بالفعل، لا بالتصريحات. وقد اختار المغرب أن يكون من القلائل الذين مدّوا يد العون فعلياً، في زمن قلّت فيه الاستجابات الجدية وتراجعت فيه الكثير من الدول أمام تعقيدات المشهد.
-2سياسياً: دعم لفلسطين بأسلوب جديد
في السياق السياسي، تُطرح تساؤلات مشروعة حول مسار التطبيع المغربي-الإسرائيلي، وهو مسار قوبل ولا يزال برفض شعبي واسع ومواقف سياسية ومجتمعية ترى فيه انحرافاً عن التزامات تاريخية تجاه فلسطين... هذا الرفض مبرّر ومفهوم، بل ويعبّر عن نبض وطني حيّ. غير أن ما تقوم به الدبلوماسية المغربية حالياً يفتح نقاشاً جديداً: هل يمكن توظيف(استغلال) هذا الواقع لتقوية دعم القضية لا التنازل عنها؟
المساعدات المغربية التي تمر عبر مطار بن غوريون تمثل مثالاً على أن التطبيع، وإن كان مؤسفاً ومرفوضاً شعبياً، يمكن أن يُستثمر في اتجاه إيجابي إذا ما وُظّف بخلفية وطنية وإنسانية تخدم الفلسطينيين فعلياً. ليست هذه دعوة للتصالح مع فكرة التطبيع، بل لتأكيد أن العلاقات الدولية لا تكون بالضرورة خيانة إذا ظلت تخدم القضية وتضغط من داخل القنوات المعقدة.
-3دبلوماسياً: حضور مغربي هادئ لكنه مؤثر
اختار المغرب أن يتصرف دون ضجيج، وأن يبرهن على التزامه التاريخي بفلسطين لا بالشعارات بل بالمبادرات الميدانية. مرور المساعدات عبر البر يتطلب تنسيقاً دقيقاً لا يتحقق إلا لدولة تحظى بمكانة سياسية متوازنة. وهنا يظهر الوجه الآخر للدبلوماسية: القدرة على التحرك وسط التناقضات دون أن تضيع البوصلة الأخلاقية.
من هذه الزاوية، قد تعزز الخطوة موقع المغرب كفاعل محتمل في المستقبل، سواء في جهود التهدئة، أو الوساطة، أو إعادة الإعمار، وهو ما قد يعطي للقضية الفلسطينية دفعة إضافية في الساحة الدولية من خلال قناة مغربية تمتلك شرعية تاريخية ومصداقية عربية.
-4خاتمة: منطق الممكن لا يلغي المبادئ
قد لا يكون التطبيع خياراً مقبولاً عند قطاعات واسعة من المغاربة، لكنه واقع قائم الآن، هل يمكن الغاؤه أو سيستمر هذا متروك للمتغيرات. ولكن السؤال الحقيقي اليوم هو: هل نترك هذا الواقع في يد من يريده أداة لتصفية القضية، أم نحاول إعادة توجيهه نحو أهداف إنسانية ووطنية تخدم الشعب الفلسطيني؟
المغرب، من خلال هذه المبادرة، يقدم نموذجاً لسياسة قادرة على التكيّف دون الانسلاخ، وعلى التحرك دون خيانة المبادئ. إنها دبلوماسية الهدوء الفعّال، التي قد لا تملأ الشوارع بالشعارات، لكنها تملأ عربات المساعدات بما يخفف الجراح ويُنقذ الأرواح.






