"حينما يغيب المشروع، تتحول السياسة إلى سوق نخاسة".. المهدي المنجرة
لم تعد "الهجرة الحزبية" فعلا استثنائياً في المغرب. بل باتت، مع توالي المواسم الانتخابية، طقسا من طقوس اللعبة، وواحدة من أكثر المؤشرات وضوحا على أن المفهوم الكلاسيكي للحزب السياسي قد فقد شرعيته الرمزية. فالذين يهاجرون لا يفرّون من أحزابهم لأنهم خانوا المبادئ، بل لأن الأحزاب نفسها لم تعد تملك مبادئ لتُخان.
السياسي الذي ينتقل اليوم من حزب إلى آخر لا يحتاج إلى تبرير. يكفي أن يتحدث عن "مصلحة الوطن"، أو "سوء التفاهم"، أو "الاختناق التنظيمي"، ليضمن له مقعدا في سفينة جديدة. ليس لأنه مقنِع، بل لأن الحزب المستقبل لا يسأل. هو أيضا لم يعد يؤمن بمعيار الاستمرارية، بل فقط بفعالية الوافد الجديد في الخريطة المقبلة.
المثير أن هذه الهجرات الجماعية لا تثير فزع الأحزاب، بل أحيانا تمنحها شعورا زائفا بالقوة. وكأن عدد المنتقلين إليها يعوّض غياب المشروع. إنها لحظة تعرّي السياسة من مضمونها، وتختزلها في تكنيك الوصول إلى السلطة، لا كوسيلة لتغيير الواقع، بل فقط لإعادة ترتيب المستفيدين منه.
ومن زاوية أكثر قسوة: لا أحد يهاجر من حزب يشتغل بجد. الهجرة هنا ليست خيانة بل حكمٌ صارم من الداخل على فشل التنظيم، وغياب الأفق، واستحالة الإصلاح من الداخل. إنها ليست فعل طعن في الظهر، بل حركة احتجاجية غير معلنة على الفراغ.
لكن من المفارقات الغريبة أن الحزب الذي تغادره الكفاءات لا يُراجع نفسه، بل يصرّ على جلد المناضلين بدل تحليل المسار. وفي المقابل، يرحب الحزب المستقبل بهم دون أن يسأل: لماذا غادروا؟ وماذا يمكن أن يحدث حين تتكرر "الهجرة" في الاتجاه المعاكس بعد خمس سنوات؟
بهذا المعنى، فإن الهجرة السياسية في المغرب ليست أزمة أشخاص، بل علامة صارخة على خلل في الهندسة الحزبية نفسها. الخلل في أن الأحزاب لم تعد تقدم أجوبة عن الأسئلة الحقيقية: ما المشروع؟ من يخاطب من؟ ما الأثر؟ وعوض أن تتحول إلى مؤسسات وساطة، أصبحت معابر سريعة نحو الشرعية الانتخابية، لا أكثر.
فحين يهجر السياسي حزبه بسهولة، فهذا لا يعني فقط أنه انتهازي؛ بل يعني، غالبا، أن حزبه لم يكن وطنا يُغادره بحزن، ولا مدرسة يُغادرها بنضج. بل مجرد قاعة انتظار مزدحمة، قرر أن يخرج منها ليبحث عن مقعد في صالة أخرى، بنفس الضوضاء، ونفس اللا جدوى.






