فن وإعلام

رحلتي مع الصحافة (45): اختبار جديد

يونش الخراشي(صحفي)

بداياتي مع "أخبار اليوم" كانت عبارة عن اختبار جديد، إذ كنت مجبرا على ملء الفراغ الكبير الذي تركه الزميل جمال اسطيفي، وهو الذي رسم الخط التحريري الرياضي، برفقة الزملاء بلخير سلام ورشيد لحلو ورضى زروق، وغيرهم ممن سبقوني إلى هناك. واحتاج مني الأمر إلى بعض الوقت، حيث قرأت الكثير مما كتب، سواء في الرياضة أو غيرها، حتى أنسجم تحريريا مع الأجواء العامة.

أما من حيث الجانب العملي، ولاسيما الإنساني، فقد وجدتني وسط أسرة كبيرة جدا، فيها من التآزر الكثير، وفيها من التواد الكثير، وليس فيها رئيس ومرؤوس، اللهم تلك المكانة التي ظل يحظى بها توفيق بوعشرين، وهو الذي كان يأتي متأخرا، في الغالب الأعم، ويركز على افتتاحيته، قبل أن يجاور الأخ طارق جبريل، ليدقق معه في الصفحة الأولى، بحيث نسمعه، من حيث كنا، في مكان يبعد عنه بعشرة أمتار، وهو يصرخ، أو يضحك.

ويحدث، على الأرجح، أن ينادي على أحد منا، أو يهاتف زملاءنا في مكتب الرباط، ليناقش، بطريقته الخاصة، والتي فيها بعض "النكير"، خبرا ما، أو كلمة ما، أو جملة ما، لأنه رأى فيها "شيئا غير مهني"، حسب زعمه، وكان المتعين تصحيحها، أو ضبطها. ويحدث أن تصبح تلك "الحادثة" حكاية اليوم، إذ يتحول كل من رئيس التحرير، الأخ مختار العماري، وسكرتير التحرير، الأخ امبارك مرابط، إلى بعض من أبطالها، أو لنقل وهو الأصح، بعض من ضحاياها. وتنتهي بأن نضحك في ما بيننا، ثم ننتظر اليوم التالي، وهكذا دواليك.

استغربت، أول الأمر لتلك الطريقة، التي وجدت فيها شيئا لم يرق لي. غير أنها صارت مألوفة، مع مرور الوقت. وحدث، في مرات، أن استدعاني توفيق لذلك الامحتان، ومرت الأمور بسلام. ثم استدعاني إلى مكتبه، الذي كان يوجد في مدخل المقر، بعيدا عن هيئة التحرير، وهو بجدران خشبية وزجاجية بنية غامقة، لا يظهر منها شيء، ولا يسمع منها همس، ليناقش معي فكرة تخص الشأن الرياضي، بحيث كان يسألني عن التفاصيل، ويسجلها في أوراقه، ثم حين يكتب افتتاحيته، يطلب مني إعادة القراءة، على سبيل التدقيق النهائي. وهكذا، كلما تعلق الأمر بمادة في الرياضة، أشكل عليه فهمها.

للأمانة، ومنذ أن جئت إلى "أخبار اليوم"، ورحت أكتب عمودا يوميا، بمسمى "محاولة"، لم يحدث أن طلب مني، لا رئيس التحرير، ولا المدير، أن أحذف منه شيئا، أو أتخلى عنه، أو سألني أحدهما، في اليوم الموالي، أو غيره، عن شيء مما كتبت. غير أنني، بحكم الخبرة، والتجارب، والمعرفة التي اكتسبتها من سنواتي في الصحافة الرياضية، وهي معرفة متواضعة جدا جدا، صرت أدرك حقول الألغام الرياضية، ودليلي في ذلك أنه، طيلة ثمان سنوات مع "أخبار اليوم"، لم أكتب عن ألعاب القوى، إذ كنت أدرك أن الأمر لن "يسلم" من مشاكل، ولاسيما في الجانب "الإشهاري"، فاستبقت، وكففت.

كان صدور مقال في "أخبار اليوم" شيئا يطرب النفس. فهي جريدة، وإن لم تكن تبيع كثيرا؛ فربما كان أكبر مبيعاتها 12 ألف نسخة في اليوم، إلا أنها كانت قوية الحضور، بفعل الأسماء التي كانت تشتغل فيها، وتمثل زبدة الصحافيين، والموضبين، والأطر الإدارية والمالية أيضا. وفي أغلب الأحيان، كان الرأي يثير نقاشا، ويحدث أن تأتيني مكالمات من زملاء أو من معنيين بالموضوع، فيكون الأخذ والرد، بحيث نثري المادة أكثر فأكثر.

من البداية، أيضا، أخذت على نفسي أن أتكفل بتصحيح مواد الزملاء والمتعاونين. لم يكن من المعقول وضع المادة الرياضية لدى قسم التدقيق اللغوي، وفيه شخصان فقط، وانتظار ساعة أو أكثر للحصول على المادة المصححة، ثم إعادة قراءتها، ووضعها في الصفحة، بعد ذلك. وهكذا، كنت أتكفل بالتصحيح، بحيث أكون قرأت المادة، وعرفت ما فيها، وأسارع إلى وضعها حيث ينبغي في الصفحة، ونربح الوقت والجهد.

في تلك الأثناء، وبينما كنت أنتظر التوضيب، مثلا، كنت أتعلم أشياء كثيرة للغاية، من زملائي الآخرين، وهم من هم في مجالاتهم. وأذكر هنا أنني كنت محظوظا للغاية إذ كنت أجلس بمقابل الأخ سعيد محتاج، المدقق اللغوي الحاذق، والذي كان يساري التوجه، بثقافة رصينة، وعشق شغوف للقراءة، ويحكي، كل يوم، وربما كل حين، عن أشياء كثيرة تهم اليسار المغربي، بل والعالمي أيضا، مدافعا عن التجارب التي يراها تستحق، ومنتقدا تلك التي يرى أنها أساءت إلى اليسار، مستثمرا تلك الحكايات التي يعرفها جيدا، أو قرأ عنها الكثير، أو عاش منها بعضها، أو ربما كان هو بطلها، أو كان حزبه أحد صناعها.

كنت أستغل معرفتي البسيطة بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بحكم انتماء الوالد رحمة الله عليه، وتلك الحكايات التي تجمعت لدي من هنا وهناك، لأطرح عليه جملة أسئلة، فيتحمس، ويبدأ في الحكي، وأستمتع بتلك الدروس التي كنت أحصل عليها مجانا، من رجل لديه الكثير ليقوله، عن خبرة وتجربة ومعرفة رصينة.