هل تُعَدُّ المؤسسات المنتخبة قاطرةً لتنمية شاملة ممكنة؟ وهل تَتَفَهَّمُ الحكومات المطالب الاجتماعية وتَتَجَاوَبُ معها؟ وهل تُدِيرُ شبيبات الأحزاب الأزمة الاجتماعية بتفكير عميق في مخارج ممكنة ومحتملة؟
تبدأ الديمقراطية عندما يصبح النقاش حول توزيع الثروة وتقاسم السلطة والعدالة الاجتماعية والمجالية وضمان الحقوق والحريات، لا حول ثوابت الأمة التي يفترض أن تبقى فوق التوظيف أثناء الاختلاف في التقدير والتوقع.
فالانتماء للأوطان يكون بالولاء والانتفاع. بالولاء، حيث الأمر مرتبط بتعاقد والتزام مبنيين على ثوابت وضوابط غير قابلة للتجاوز. وبالانتفاع، حيث الأمر يتعلق بعلاقات قائمة على المساواة في نيل الحقوق والحريات.
وإذا كان أمر الثوابت والضوابط محصور ومحسوم دستوريا، فإن أمر المساواة في الحقوق والحريات بحاجة إلى غَفْوَةٍ لِتَذْهَبَ بما كان، وصَحْوَةٍ ننهض منها إلى ما سيكون. فالوطن عامر بخيراته ويَضُجُّ بالحياة، لكن جزءً كبيرا من مواطنيه ومواطناته أقرب إلى الموات.
لذلك، فإبداء الرأي أو الموقف السياسي لا يجب أن يتحول إلى اختبار في الوطنية، بقدر ما ينبغي التعامل معه في إطار مساءلة الحكومة أو محاسبة لها على الثروة الوطنية وطرق وكيفيات إعادة توزيعها على المواطنات والمواطنين.
خاصة وأن الوطن محمي دستوريا بالقانون والمؤسسات. والنقاش اليوم يتركز على قضايا تخص البرامج والسياسات: البطالة والصحة، والتعليم.. والفساد. فهل أخطأت الحكومات في تدبير الشأن العام؟ وكيف يمكن إصلاح ما انحرف واعوج من الممارسات والتصرفات داخل المرافق العامة للدولة؟
ونحن اليوم أمام شباب ما عاد عطشانا وبه حاجة إلى شرب ماء، بل صار ظمآنا من شدة الألم في الحلق لعدم الشرب. فما عاد ينظر إلا بعين ما اغتُصِب من حقوق، ولا صار يقرأ الخطابات إلا بعين السؤال: كيف ومتى يَرِقُّ ويلين الفاسدون؟
شباب عُزَّل، لا يملكون سلاحا، وفي دواخلهم نيرانٌ تضطرم ولا تنطفئ. يهجعون ليلهم، ولا يَكْسِرُ الصّباحُ ما بأنفسهم، ولا يرون ببصرهم ما تَشِي به ملامحُ وضعهم، ولا تَنْفُذُ بصيرتهم إلى أعماق المؤسسات والإدارات والشركات، فيفزعهم ما يموج وما يروج عنها.
شباب انعزلوا في مجالسهم، فلم يعد وَقْعٌ في أنفسهم لما يجري، ولم يُصْبِحْ أيُّ ائتمان على حاضرهم ومستقبلهم. في نفسهم ما يَغْلِبُ كلَّ قول، فلم يرضَوا دون قولِ غيرِ ما يقولُه المسؤولون الحكوميون ورجال الأعمال.
شباب لم يهجروا وطنهم، فمِنْ هذا الوطنِ أَثَرٌ لا يزول. وكأنهم بخروجهم وبصدح حناجرهم ينتزعون جزءً من أنفسهم، ويبحثون ليجدوا ذواتهم التي فارقتهم إلى حيث لا يدرون، وكأنهم وراء شغل وتعليم وصحة ساعون.
يعز عليهم وطنهم، لكنه ضاق بهم. وما ابتلَّت أعينهم بالدمع ولن تبتلَّ ما بقي جمر الفتنة يخبو ويتقد بشرور أفعال المغتصبين. فقد ثَقُلَتْ هِمَّة حكوماتهم، وتراخت هِمَم وزرائهم وبرلمانييهم وكافة منتخبيهم، فتساءلوا بصدق: أين كان هؤلاء مما جرى بالأمس ويجري اليوم؟
شباب ما ردَّه الكلامُ وتنميقُ الخطاب قبل الخروج، فهل يردُّه وقد خرج؟ مُؤكَّدٌ رجوعُه حين يحين الأوان، وحين ينهض بالأمر ذووه، وحين تَعْمُر الدِّيار بوجود أُنْسٍ فيها.
شباب حين يعيد طرح سؤال: ما الذي وجده المغاربة في هذه الكيانات السياسية فجعلوها تشكل حكومات؟ فهو لا يريد رأيا أو موقفا يُقعِده عمَّا عزم عليه أو يوهن من عزيمته. خاصة وهو لم يَرَ منها سوى أنها تعطي الأمان بالخطاب وتسلُب الحياة بالفعل.
وللحديث عن الشباب شقين: شباب انتظم داخل قنوات تقنين الاستفادة من ريع الانتماء الحزبي القائم على إعادة توزيع امتيازات القرابة والولاء داخل مؤسسات الدولة والمقاولات، تفرَّغ لتنظيم مؤتمرات الشبيبات الحزبية والصراع على المواقع داخل هياكلها وعلى المناصب في المؤسسات العمومية.
وشباب آخر اسودَّت الحياةُ في أعينهم، وسُدَّت في أوجههم جميع أبواب ومنافذ الانتظام في قنوات الارتقاء الاجتماعي المشروع، ولم تعد أسرهم قادرة على إعالتهم حتى بعد الدراسة والتخرج، فصدحت حناجرهم للمطالبة بالتشغيل والتطبيب والتعليم والعدالة الاجتماعية.
والنقاشُ السَّوِيُّ يبتدئ حيث يلامسه العقلاء من باب الثروة ومدى تحقق العدالة في الاستفادة منها على قاعدة المواطنة، أطفالا وشبابا وكهولا وشيوخا، بعيدا عن التشويش وتسميم الأجواء وممارسة الإقصاء بذريعة الولاء للوطن.
أما في حال الانزياح بالسّلوك إلى الخروج على ضوابط القانون وقواعده، فإن الأمر يوكل لإنفاذ القانون فيمَنْ ثبت خروجُه، تماما كما هو حال مستعملي العنف ضد القوات العمومية أثناء التظاهر، والذي كان محط تنديد وشجب من الجميع، بالنظر لما فيه من تهديد لحياة وسلامة المواطنات والمواطنين وممتلكاتهم العامة والخاصة.
لكن، كم نحتاج من وقت وجهد لقياس قسوة وعنف السياسات العمومية ووقعها على المواطنات والمواطنين، أطفالا وشبابا وكهولا وشيوخا؟






