يعلو الصوت في كل مرة يعلن فيها المغرب عن مشروع رياضي كبير: "نريد مستشفيات لا ملاعب، نريد مدارس لا كؤوسا". كأن الوطن لا يتسع إلا لفكرة واحدة، وكأن بناء ملعب يعني هدم قسم في مستشفى أو إغلاق باب مدرسة.
هذا الخطاب الذي يبدو في ظاهره حريصا على الأولويات يخفي في جوهره سوء فهم عميق لمعنى التنمية: التنمية لا تُختزل في قطاع واحد، ولا تزدهر بعين ترى الصحة والتعليم وتغفل الاقتصاد والرياضة والثقافة.
أيها المنتقدون، تنظيم كأس إفريقيا وكأس العالم ليس ترفا ولا نزوة سياسية. إنه شهادة من العالم بأن هذا البلد يستحق أن يكون في الصفوف الأمامية. عشرات الدول تتناحر على هذا الشرف، لأنه لا يعني مجرد مباريات تُلعب، بل أوراشا كبرى تُفتح، واقتصادا يتحرك، وصورة وطن تُرسم في أذهان الملايين.
ثم من قال إن الملاعب التي تُشيَّد ستُهدم بعد صافرة النهاية؟ كل ما نبنيه اليوم سيبقى لنا ولأبنائنا. الطرق التي ستُعبّد لن تخدم الجماهير فقط، بل ستربط قرى ومدنا وتقرب الخدمات من المواطنين. المطارات التي ستُحدّث ستصبح جسورا للسياحة والاستثمار. والفنادق التي ستبنى لن تغلق أبوابها بعد البطولة، بل ستستقبل زوارا من العالم لعقود قادمة. حتى الملاعب نفسها لن تكون مجرد مستطيلات عشب، بل فضاءات مفتوحة للثقافة والفنون والرياضة والمجتمع المدني.
إنها بنية تحتية وطنية تُشيَّد باسم الرياضة، لكنها تخدم كل شيء آخر. نحن لا نبني ملعبا لثماني مباريات، بل نبني مدينة جديدة من الفرص.
ولنتحدث عن الشغل الذي يتحدث الجميع عن غيابه. هذه المشاريع الكبرى لا تفتح بابا واحدا، بل أبوابا كثيرة: من شركات البناء والهندسة التي تُشغِّل آلاف اليد العاملة، إلى قطاعات النقل والفندقة والخدمات والتسويق والإعلام. كل حجر يوضع في ملعب هو فرصة عمل جديدة، وكل طريق تُعبّد هي مورد رزق لعشرات الأسر. وعندما يأتي الزوار بالآلاف، فإنهم لا يشاهدون المباريات فقط، بل يستهلكون منتجاتنا، ويقيمون في فنادقنا، ويستثمرون في مشاريعنا.
إن الاقتصاد ليس معادلة صماء، بل شبكة من الحركات الصغيرة التي تبدأ من مشروع كبير. وكل درهم يُستثمر اليوم في البنى التحتية سيعود على المغاربة مضاعفا في شكل فرص عمل، وخدمات جديدة، وتنمية محلية في مدن لم تكن تحلم بها من قبل.
ثم هل نسيتم لحظة الفخر في مونديال قطر؟ هل نسيتم كيف اجتمع المغاربة على قلب واحد وهم يشاهدون أبناءهم يصنعون التاريخ؟ تلك الدموع التي سالت في المقاهي والساحات لم تكن دموع "كرة"، بل دموع وطن أدرك فجأة أنه قادر. تلك اللحظة وحدها كانت درسا في الوحدة والانتماء، ورسالة بأن الرياضة ليست ترفا بل طاقة تُعيد للأمم ثقتها بنفسها.
من السهل أن نقول "لا نريد الملاعب"، لكن الأصعب أن نفهم أن هذه الملاعب ليست إسمنتا وعشبا فقط، بل أوتاد نغرسها في أرض الحاضر لنشدّ بها خيمة المستقبل. لسنا أمام خيار بين الصحة والرياضة، بل أمام فرصة أن نجعل من كليهما جناحين يطير بهما الوطن نحو غد أفضل.
فلنجعل النقاش إذن لا حول إلغاء المشاريع، بل حول كيف نُحسن تدبيرها ونضمن أن يستفيد منها كل مغربي. لأن الحقيقة التي لا جدال فيها أن كل ما سيُنجز اليوم سيبقى لنا، وسيخدم أبناءنا من بعدنا. وعندما تنتهي صافرة المباراة الأخيرة وتُطوى صفحة البطولة، سيبقى ما هو أهم: طرق وجسور، وظائف وأحلام، وملاعب لا تُشيَّد من أجل الغير، بل من أجلنا نحن.
فالمغرب لا يراهن على مباراة، بل يراهن على مستقبل.






