قضايا

حديث الاربعاء: الدولة الاجتماعية.. أزمة الكبار

عبد الرفيع حمضي

في تجمع حزبي بألمانيا، أطلق المستشار فريدريش ميرتس، القيادي البارز في الحزب المسيحي الديمقراطي، تصريحاً صادماً حين قال إن الدولة الاجتماعية الألمانية بصيغتها الحالية “لم تعد قابلة للتمويل”. ولم يكن ذلك مجرد خطاب انتخابي عابر، بل تحوّل إلى نقاش وطني واسع تجاوز حدود ألمانيا ليصل إلى لندن ومدريد وواشنطن.

هذا النقاش يعيد الذاكرة إلى جذور الدولة الاجتماعية ذاتها. فالصيغة الحديثة لنُظم الحماية الاجتماعية وُضعت لأول مرة في أوروبا على يد المستشار أوتو فون بسمارك في نهاية القرن التاسع عشر، حين أقرّ أول منظومة للتأمين ضد المرض وحوادث الشغل والتقاعد. ومن المفارقات التاريخية اليوم أن هذا البلد الذي دشّن الفكرة وأسس نموذجها هو الذي يقرّ اليوم بأن تكلفته أصبحت غير محتملة، وأن بنياته الاجتماعية مهددة بالتآكل. فماذا حدث؟

لقد تأسس النموذج الأوروبي للرفاه بعد الحرب العالمية الثانية على قيم التضامن والتمويل العمومي الواسع. لكنه يواجه اليوم حدود قدرته على الاستمرار بفعل ارتفاع كلفة التقاعد والرعاية الصحية والشيخوخة السكانية. لم يعد النقاش تقنياً فقط، بل أصبح يمسّ صميم العقد الاجتماعي: كيف يمكن للدولة أن تضمن العدالة والتضامن بين الأجيال دون أن تنهار مالياً؟

اماً في بلادنا فقد انطلقت أوراش كبرى لبناء مشروع الدولة الاجتماعية: تعميم التغطية الصحية، إطلاق التعويضات العائلية، دعم الفئات الهشة، إصلاح أنظمة الدعم، تعويض البطالة. لكن المفارقة واضحة؛ فصناديق التقاعد — عماد منظومة الحماية الاجتماعية — تعيش منذ الآن أزمة حقيقية: بعضها استنفد احتياطاته، وأخرى مهددة بالنضوب خلال سنوات قليلة.

هنا تظهر الإشكالية الكبرى: كيف نؤسس لمشروع لدولة اجتماعية ونحن نواجه من البداية أزمات لم تعرفها أوروبا إلا بعد عقود طويلة من التعميم والممارسة؟

ولهذا يجب التمييز بوضوح:

 • أوروبا تعيش اليوم أزمة تطوّر لنموذج بلغ مرحلة النضج وتمددت فيه الحقوق والنفقات إلى حد تجاوز قدرة التمويل.

 • بينما يعيش المغرب أزمة تأسيس، أي أننا لا ندافع عن نموذج استهلكناه، بل نحاول بناءه في ظروف مالية وديموغرافية حساسة.

وهذه الفجوة التاريخية والفكرية تجعل مسؤوليتنا مضاعفة: يجب أن نبني نموذجاً اجتماعياً قادراً على الصمود منذ البداية، لا أن ننزلق إلى نفس المآزق بعد سنوات قليلة .

فالخلل لا يكمن في الحلم، بل في الهندسة بفعل ضعف قاعدة المساهمين الناتج عن اتساع الاقتصاد غير المهيكل، ضعف نسب التصريح لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، تعدد أنظمة التقاعد وما يسببه من تفاوتات وصعوبة الإصلاح، إضافة إلى بداية التحول الديموغرافي نحو مجتمع يشيخ وتباطؤ في تنزيل الإصلاحات الهيكلية….الخ 

من هنا يصبح الدرس الألماني واضحاً:

 1-لا حماية اجتماعية مستدامة دون نمو وإنتاجية.

 2-. التضامن بين الأجيال يجب أن يكون القاعدة لا الاستثناء.

واذا كان مشروع الدولة الاجتماعية بالمغرب تؤطره بوضوح الرؤية الملكية السامية في بعدها الاستراتيجي، فإنّ تدليل صعوبة التنزيل -بما فيه من منعرجات متعددة لا يمكن إنكارها- تبقى من مسؤولية الفاعلين العموميين، كلٌّ في نطاق اختصاصه. وهذه المسؤولية لا تُمارس إلا بذكاء جمعي يجمع بين الكفاءة التقنية، والإرادة السياسية، والقدرة على الإصغاء لكل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والمؤسساتيين والمدنيين .فالحماية الاجتماعية ليست برنامجاً ظرفياً، بل مشروعٌ مجتمعي يرهن مستقبل البلاد ويمنح مكتسبات لا رجعة فيها. ومن ثمّ، يجب تحصينه لضمان استدامته كشرط لابديل عنه لان الأمر يتعلق بالاستقرار وبمصير الأجيال القادمة.

لنتعلم إذن من “أزمة الكبار” حتى لا نصبح رهائن لها.