يتفاجأ من يتابع جديد الدراسات السردية المغربية. فبين الفينة والأخرى يظهر كتاب جديد لاسم جديد نتعرف عليه لأول مرة من خلال إصدار له قيمة خاصة، أو يبرز في لائحة طويلة، أو قصيرة لإحدى الجوائز العربية. فهل يمكننا الحديث عن جيل جديد من الدارسين والباحثين؟
عندما نتأمل بعض الأسماء مثل رشيد الخديري، أو سعيد أوعبو، أو مها بنسعيد، أو عتيقة غازي، على سبيل المثال لا الحصر، نلقاهم جميعا يشتغلون في الابتدائي أوالثانوي، ولكنهم مع ذلك يجتهدون ويعملون ويواصلون الإنتاج، ويسهمون في كتابة دراسات وكتب نجد لها موقعا في المجلات والمعارض العربية.
فلماذا لا يكون من معايير انتقاء أساتذة الكلية مثل هؤلاء الباحثين؟ وإلى متى ستظل تفصَّل المناصب على حساب "اختصاصات" ليس لها سوى الإسم لتسند إلى المرغوب في منحها لهم دون توفرالشروط الضرورية لذلك، وحرمان من يستحقها لأنه خارج الاختصاص "المطلوب"؟ ليست عندنا اختصاصات. ففي شعبة اللغة العربية وآدابها يمكننا التمييز بين اللسانيات والأدب. وما تبقى (نحو، بلاغة، شعر، نقد، أدب أندلسي..) مواد يمكن لأي أستاذ في اللسانيات، أو الأدب أن يدرسها. بهذا التمييز يجب أن تراعى في المباريات، شروط تتصل بالنشاط الثقافي والبحثي، والإصدارات، والقدرة على المبادرة في خلق الفعاليات الثقافية، وما خلا ذلك انتفاء لأهمية الانتقاء.
إن كليات الآداب المغربية لا يمكنها أن تتطور إلا بأمثال هؤلاء الباحثين الحقيقيين، وليس بمن لا يكتب مقالات، لا قيمة لها، إلا بهدف الترقية. وبعض هؤلاء للأسف هم ممن لهم حضور في الكليات. أما هذه الزمرة من الباحثين من الجيل الجديد، الذين ما يزال أغلبهم خارج الجامعة، فهم امتداد للأجيال التي أعطت لكليات الآداب المغربية حضورها وتألقها مغربيا وعربيا. إنهم يشتركون معهم في الهم الثقافي والمعرفي، ويعملون باطراد على تطوير أدواتهم، وفرض شخصيتهم البحثية. لقد أتيحت لبعض الباحثين من هذه الزمرة فرصة الالتحاق بالجامعة، وهم يواصلون ما تربوا عليه في البحث، بإسهامهم مع من لم يلتحقوا بعد بالكلية في إثراء الدراسة السردية المغربية والعربية.
كتبت مرة عن "جيل بلا بوصلة"، فأثار هذا حفيظة بعض الباحثين والمثقفين المغاربة والعرب، كنت أعني بذلك أنه جيل بلا "إبدال" ثقافي أو سياسي يجمع بينهم. وهذا ما يختلف به هذا الجيل بمقارنته بجيلي مثلا. عندما بدأنا نكتب في أواسط السبعينيات وحتى أواسط التسعينيات، كان الهم السياسي مشتركا، وكانت البنيوية جامعة.
كان العمل الجماعي مؤطرا داخل اتحاد كتاب المغرب وفروعه، وفي الجمعيات الثقافية. وكان الكل يفكر في الانخراط في تأسيس مجلة، أو إصدار جريدة ثقافية، أو دار نشر، وفي متابعة ما يتحقق في مجال "النظرية الفرنسية"، فكانت الترجمات لجديد التيارات والاتجاهات الأدبية واللسانية العالمية. كانت الحقبة ذهبية بالمعنى الحقيقي للكلمة.
إنها تعبير عن الزخم الذي أعطى للدراسة الأدبية واللسانية المغربية حضورها المتميز عربيا، وساهم في تطويرها. هذا الحضور ما يزال متواصلا إلى الآن بفضل الجيل الجديد الذي أتحدث عنه، ولكنه في رأيي غير قادر على المواصلة والاستمرار لأن التبدلات الجذرية الطارئة، منذ الألفية الجديدة، لا يمكن أن يكون لها أثر إيجابي للسير على الخطى التي تأسست في البدايات، والتي يتبع نهجها هذا الجيل.
لقد تغير النظام الجامعي القديم الذي كان وليد التقاليد العربية ـ الفرنسية التي بنيت على أساس الإحاطة بتاريخ الأدب، وبالفكر الأدبي في بعده الفلسفي والعلمي. ومع النظام الجديد ذي الخلفية الأنكلو أمريكية، الذي تقلصت فيه سنوات الدراسة وإعداد الرسائل والأطاريح، وصارت هناك بنيات ومختبرات ومراكز، ولكن في غياب اختصاصات محددة للتأطير والتكوين، بات التركيز ينصب على الجوانب التقنية أكثر، فغاب المحتوى المعرفي والعلمي.
لقد أضحى دور الأستاذ يتوقف على العمل التقني أكثر من إعطاء الدروس. فصار هم الطالب هو الحصول على النقاط، والعلامات التي تؤهله للنجاح، وهو لا يعرف شيئا عن تاريخ الأدب الذي يدرسه. ومع الثورة الرقمية باتت العلاقة مع الكتاب والمصادر محدودة، فصار القص واللصق. ومع الذكاء الاصطناعي انعدم بذل الجهد، وقل العمل الجاد من أجل التحصيل والتثقيف الذاتي.
نعم أتحدث عن جيل جديد يواصل المسير في شروط مختلفة عن الظروف القاسية التي كنا نعرفها. لقد أضحت إمكانات الحصول على المادة، أيا كان نوعها متوفرا، وبأي لغة متاحا. كنا نتوقف عن البحث في انتظار صدور مجلة تتضمن بعض ما نشتغل به، ونتلهف على اقتنائها رغم ثمنها الغالي. ونقرؤها بصبر وببذل الجهد لكي نستفيد منها. تغيرت شروط البحث وصارت مجانية ومتعددة ومتنوعة، لكن وفرة الصيد صاحبتها قلة السهام. فصار كل يصطاد بما تتوفر عليه يداه وجهده. ومن يظفر بجائزة، أو يطبع كتابا، يسعد بما جناه. قد يبارك له، ويتلقى التهاني من أترابه وزملائه. وعند هذا الحد انتهى الحد.
ما هو الإبدال الذي يشتغل في نطاقه هذا الجيل؟ ما الذي يجمع بينهم على صعيد البحث؟ وما هي آفاق المجهودات التي يقومون بها؟ ما هي مواقف بعضهم مما يكتبه غيرهم؟ هذه هي الأسئلة المغيبة، التي تدفع في اتجاه البحث عن الأجوبة الملائمة لها. لم تفرق هذا الجيل الحساسيات السياسية التي كانت عائقا في زماننا، والتي كنا نتفاعل بيننا، رغم هيمنتها.
فما الذي يحول دون تفكيرهم في الإطارات التي تجمع بينهم، وتوحد أشغالهم، وتتيح الحوار النقدي والتفاعل الإيجابي بينهم؟ من دون طرح هذه الأسئلة والعمل الجماعي للإجابة عنها، لا يمكن لشعب اللغة العربية وآدابها أن تضطلع بدورها، أولا في استقطاب الكفاءات البحثية الشابة، وثانيا في الحفاظ على ريادتها في خدمة الثقافة المغربية وعلى موقعها على الصعيد العربي.






