نظام أساسي كان ثمرة حوار ماراطوني بين وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والنقابات الأكثر تمثيلية بالقطاع، إذ دامت جولات الحوار زهاء سنة مع تنظيم أكثر من 20 لقاء حضرته النقابات التعليمية الأكثر تمثيلية قبل الوصول إلى اتفاق 14 يناير 2023 الذي تم خلاله الاتفاق على المبادئ العامة المؤطرة. لكن بعد ترجمة هذه المبادئ الأساسية إلى مواد قانونية، أي المرسوم رقم 2.23.819، وتمرير النظام الأساسي، تفجرت الأزمة في القطاع، حيث قوبل بمعارضة شديدة من قبل كل مكونات الشغيلة التعليمية، وممثلو النقابات الأربع أكدوا من جهتهم بأنهم فوجئوا بضرب المنهجية التشاركية في آخر لحظات الحوار حول النظام الأساسي، وأن الوزارة انفردت بإحالته على المجلس الحكومي للمصادقة عليه دون الأخذ بعين الاعتبار اقتراحاتهم. مما جعل رئيس الحكومة يجتمع بالنقابات مجددا ويتعهد بمراجعة هذا القانون وتجويده دون أن يفلح في طمأنة نساء ورجال التعليم الذين اختاروا طريق التصعيد والمطالبة بالسحب الفوري لهذا القانون، بالرغم من بلاغات بعض النقابات الداعية إلى إبداء حسن النية والعودة للعمل في ظل استئناف الحوار الذي باشرته الحكومة.
فما السبب في هذا الرفض المطلق لهذا القانون؟ هل الأمر مرتبط بنص النظام الأساسي ومضمونه؟ أم بقراءة غير محايدة طغت عليها انتظارات نساء ورجال التعليم؟. دعونا نلقي نظرة سريعة على بعض مضامين هذا النظام الذي شل سير المدرسة العمومية لعلنا نقرب القارئ العادي من هذا القانون، ونساهم في نقاش هادئ بعيدا عن النقاش المتشنج الدائر بين الوزارة الوصية والشغيلة التعليمية. لكن وبهدف الاختصار، سنقتصر على تناول بعض النقط الخلافية الهامة فقط:
أولا، تشكل الأجور أهمية كبيرة في تحفيز الموظفين، بل يعتبرها البعض أساس تحقيق الرضا الوظيفي للموظف العام. وبالنسبة لموظفي وزارة التربية الوطنية، فقد تقزمت أجورهم مقارنة بأجور موظفي القطاعات الأخرى. ويعزى هذا الأمر إلى مراجعة أجور الموظفين الآخرين في إطار أنظمة أساسية جديدة، كما حدث مع موظفي وزارة العدل. لكن النظام الأساسي الجديد لموظفي وزارة التربية الوطنية تجاهل مناقشة المسألة الأجرية، كما تجاهلها أيضا البلاغ التوضيحي للوزارة، وهو ما لم يستسغه موظفو القطاع، خصوصا في ظل ارتفاع الأسعار ونسب التضخم التي بلغت مستويات قياسية، وجعلت نساء ورجال التعليم يعيشون أوضاعا ستزداد صعوبة مع قانون المالية المقبل الذي سيكرس الأوضاع المزرية "للفقراء الجدد".
ثانيا، بخصوص مسألة الترقي، هناك نقطة إيجابية تتمثل في إنصاف فئة أساتذة التعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي والمختصين التربويين ومختصي الاقتصاد والادارة والمختصين الاجتماعيين من خلال تنصيص النظام الأساسي الجديد على استفادة هذه الفئة التي تمثل حوالي ثلثي موظفي القطاع من الدرجة الممتازة. لكن، يبدو أن هذه النقطة حاولت الحكومة أن تغطي بها الوعود الانتخابية للحزب الأغلبي، حيث اعتبر رئيس مجلس النواب خلال مروره الأخير على القناة الأولى، أن هذه الزيادة في الراتب التي سيحصل عليها الموظفون الذين سيلجون الدرجة الممتازة والتي قدرها بـ 2700 درهم، تدخل في إطار الوفاء بهذه الوعود، بيد أن المسألة تتعلق بترقية عادية حرم منها آلاف الأساتذة والأطر الذين تقاعدوا قبل أن ينالوا حقهم المشروع.
ثالثا، أحدث النظام الأساسي إطار جديد، ويتعلق الأمر بالأستاذ الباحث، وهو أمر إيجابي لعله ينصف فئة الدكاترة من داخل القطاع التي ظلت تناضل لأزيد من عقدين من الزمن لإقرار هذا الحق، لكن تنصيص المادة 33 من النظام الأساسي على شروط اجتياز المباراة، وتخلي الوزارة على ما تم الاتفاق عليه في الاتفاق المرحلي لـ 18 يناير 2022 المتمثل في التسوية الشاملة جعل الملف يحل بصفة جزئية فقط.
رابعا، فيما يتعلق بساعات العمل، لم يأت النظام الأساسي بجديد، اللهم تجاهل مطالب نساء ورجال التعليم بخصوص إلغاء الساعات التضامنية التي قام بترسيمها النظام الأساسي الخاص بموظفي وزارة التربية الوطنية لسنة 1985، حيث ترك للسلطة الحكومية صلاحية تحديد مدة العمل الأسبوعية كما فعل النظام الأساسي لسنة 2003. غير أن إضافة التأكيد على مهام قديمة كان يقوم بها نساء ورجال التعليم بشكل تطوعي، والتنصيص على مهام جديدة من قبيل المشاركة في تنظيم المباريات! دون تحديد نوعيتها، أثار مخاوف هذه الفئة وفتح مجال النقاش حول أيام العطل المدرسية، خصوصا عندما تم التأكيد على القيام ببعض هذه المهام خارج ساعات العمل الأصلية في الباب الخاص بالتحفيز.
خامسا، بالنسبة للتحفيز المهني، خصص النظام الأساسي الباب السابع بأكمله لهذه المسألة، حيث نصت المادة 60 على استفادة أعضاء الفريق التربوي بمؤسسات التربية والتعليم العمومي الحاصلة على شارة "مؤسسة الريادة"، المرسمون من منحة سنوية صافية قدرها عشرة آلاف درهم، بعد استفائهم لعدة شروط من ضمنها الاسهام في تنشيط الحياة المدرسية، وتقديم أنشطة الدعم التربوي المبرمج خارج حصص التدريس المعتمدة. كما نصت المادة 62 على منح شهادات تقدير سنوية للموارد البشرية، تتراوح بين التشجيع وميزة الشرف. بيد أن تمحيص هذه المواد، يجعلنا نتحفظ عن استعمال كلمة التحفيز، لأننا بصدد التعويض عن مهام جديدة أقرتها المادة 60 للاستفادة من المنحة الهزيلة، لأن التحفيز يقتضي التشجيع على إتقان مهام واختصاصات تدخل في صميم عمل الموظف وخلال ساعات اشتغاله! ثم ومن زاوية الحرص على مصلحة التلميذ، ألا تخشى الوزارة انسياق نساء ورجال التعليم وراء التنافس حول هذه المهام الثانوية وترك وظيفتهم التعليمية التعلمية الأساسية؟. وبالإضافة إلى ما سبق، هذا التعويض لن يستفيد منه جميع من توفرت فيه الشروط التي وضعها النظام الأساسي، إذ أن هذا الأخير أحال تحديد شروط وكيفيات الاستفادة من المنحة المالية وعدد المستفيدين منها وعدد المؤسسات المعنية لقرار مشترك بين السلطتين الحكوميتين المكلفتين بالتربية الوطنية وبالمالية، وهو نفس الشيء الذي فعله مع الشواهد "الكارتونية" التي استثنى بخصوصها وزارة المالية تأكيدا منه على خلوها من أي تبعات مالية.
سادسا، العقوبات التأديبية التي جاء بها النظام الأساسي في المادة 64 من الباب التاسع، صنفها إلى أربع درجات بدءا من الانذار إلى العزل والاعفاء بالنسبة للمتمرنين، وجاء بعضها منافيا لشعار الوزارة المتمثل في "الأجر مقابل العمل" بخصوص أيام الإضراب، إذ تنص العقوبة الرابعة من عقوبات الدرجة الثالثة في المادة المذكورة أعلاه على "الخصم من الراتب الأساسي بما لا يتجاوز 10 أيام في حدود 60 يوما خلال السنة"!. ودون الخوض في تفاصيل الاكثار من العقوبات وتشديدها وعدم تحديد من سيطبقها. تثير هذه النقطة مسألتين أساسيتين، تتعلق الأولى؛ بالتساؤل حول الأسباب الكامنة وراء إقدام الوزارة على استثناء "مواردها البشرية" من الخضوع لأحكام النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية كما كان معمولا به في الأنظمة السابقة. فيما تتعلق الثانية؛ بإشكالية وضع العقوبات دون تحديد المخالفات! وهو ما يثير مخاوف مشروعة لدى موظفي وزارة التربية.
سابعا، سنتطرق هنا لإشكالية أطر الأكاديميات، وهنا مربط الفرس، إذ أن النظام الأساسي الجديد سمى موظفو الوزارة، وعلى عكس القانون السابق، بالموارد البشرية، وهي عبارة إدارية تسللت لهذا النظام أو أريد لها ذلك، لتعويض كلمة "موظف" التي حدد مدلولها القانوني بدقة الظهير الشريف الصادر في فبراير 1958، حيث تقول مادته الثانية "يعد موظفا كل شخص يعين في وظيفة قارة ويرسم في إحدى رتب السلم الخاص بأسلاك الإدارة التابعة للدولة". وهو ما يجعل وضعية أطر الأكاديميات يكتنفها الغموض ومفتوحة على جميع الاحتمالات، خصوصا في ظل عدم تنصيص مشروع قانون المالية على مناصب مالية تخص قطاع التعليم، واكتفاء مرسوم 2.23.781 بنسخ وتعويض أحكام المادة 11 من القانون رقم 07.00، بما يسمح بخضوع الأطر النظامية للأكاديميات للنظام الأساسي الجديد وإرجاء المراجعة الشاملة للقانون المحدث للأكاديميات الجهوية. كما أن البلاغ التوضيحي للوزارة عقب ردود الفعل الأولية حول النظام الجديد، أكد في نقطته السادسة أن الطي النهائي لملف أطر الأكاديميات تم عقب إدماجهم في هذا النظام الأساسي وليس في أسلاك الوظيفة العمومية! وهو ما يجعل مسألة إدماج هذه الفئة غير ثابتة بل غير واردة، إذ أكدت المادة الأولى ذلك بصريح العبارة: "يسري هذا النظام الخاص على موظفي قطاع التربية الوطنية والأطر النظامية للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، ويشار إليهم في هذا المرسوم بالموارد البشرية". ولدينا مثال قريب إلى أذهاننا، يتعلق بالحملة التي أطلقتها وزارة أمزازي السابقة، عندما تم التسويق على نطاق واسع لإدماج هذه الفئة بعدما تم تغيير اسمها من الأساتذة المتعاقدين إلى أطر الأكاديميات، دون أن يتغير جوهر التوظيف بالعقدة.
باختصار، النظام الأساسي الجديد وبدل إيجاد حلول واقعية للمشاكل القديمة، طرح مشاكل جديدة، وعجز عن استهداف مكامن خلل المدرسة العمومية ومعالجتها. بل آثر مهندسوه توجيه أنظار الأسر لعرض تربوي بديل (التعليم الخصوصي)، بدل اصلاح "المنظومة التربوية العمومية التقليدية" بتعبير صندوق النقد الدولي. لذا يحق لنا التساؤل عن ماهية الحوار الذي تنوي الحكومة استئنافه مع النقابات والهيئات التعليمية وأفقه. فهل تمتلك الحكومة الجرأة الكافية والارادة السياسية لسحب المرسوم وتغييره؟ أم ستتمسك باقتراح تجويده عبر تصحيح بعض المواد؟ أو إعادة الاعتبار لبعض الفئات المتضررة؟ بعبارة أخرى، هل تسعى الحكومة إلى حل هذا الملف خدمة لإصلاح المدرسة العمومية؟ أم تسعى فقط إلى إرجاع الأساتذة للأقسام وترك دار لقمان على حالها!
أخيرا، يمكننا القول إن إصلاح منظومة التربية الوطنية، يقتضي كما أشار إلى ذلك النموذج التنموي الجديد؛ جعل المؤسسات تتحمل كامل مسؤولياتها لكي تصبح محركا للتغيير ولتعبئة الفاعلين، وجعل مهنة ووضعية المدرس أكثر جاذبية قصد استقطاب الطلبة المتفوقين. لكن بخصوص النقطة الأولى، نجد أن الوزارة في الوقت الذي ألزمت فيه رجل التعليم بمهام قديمة وجديدة، تتنصل من واجباتها صراحة في المادة الرابعة التي تقول في فقرتها الثانية: "وتوضع رهن إشارة الموارد البشرية المعلومات والمعطيات والمستجدات التربوية والإدارية الضرورية لممارسة مهامها، وكذا الموارد الديداكتيكية والحقائب البيداغوجية، في حدود الإمكانات المتاحة، بغاية تعزيز وتعميم التعلمات والممارسات الجيدة". أما بخصوص النقطة الثانية، فإن استمرار وضعية الأطر النظامية للأكاديميات الجهوية على حالها وتجميد الأجور والاكثار من المهام وتشديد العقوبات وضبابية مستقبل القطاع لن يعمل إلا على تنف