نتقدم بخالص التعازي إلى أسر الضحايا الذين فقدوا حياتهم في فاجعة انهيار العمارتين بمدينة فاس.
مأساة أودت بأرواح رجال ونساء وأطفال، وتركت خلفها صدمة جماعية وأسئلة ملحّة حول أسباب استمرار تكرار مثل هذه الحوادث في مدننا.
هذه الفاجعة ليست حادثا عرضيا، بل نتيجة تراكمات عمرانية وإدارية، وسلوكيات اجتماعية سمحت بتفشي البناء العشوائي داخل النسيج الحضري، في ظل غياب مراقبة فعالة وتطبيق صارم للقوانين.
أولاً: انهيار يفضح هشاشة المنظومة العمرانية
لا يمكن قراءة ما حدث بمعزل عن السياق العمراني العام. فالبناء العشوائي لم يعد ظاهرة هامشية، بل واقعا يتنامى في عدد من المدن.
عمارات وأحياء تبنى خارج المساطر، تتكدس بلا تخطيط، وترتفع من دون دراسة هندسية ولا توفير شروط السلامة.
هذه الهشاشة لا تنحصر في مواد البناء، بل تمتد إلى هشاشة مؤسساتية في المراقبة والتنظيم والتدبير.
ثانياً: المسؤوليات المتداخلة… شبكة من التقصي
1. السلطة المحلية: مراقبة غائبة أو غير كافية:
البناء غير القانوني لا ينبت فجأة.
هو نتيجة لغياب المتابعة أو التساهل مع المخالفات.
ورغم الجهود التي تبذلها بعض الإدارات، فإن استمرار هذه الظاهرة يكشف وجود فجوات حقيقية في المراقبة الميدانية.
2. المنتخبون: مسؤولية سياسية قبل أن تكون تقنية:
على المنتخبين دور محوري في ضمان احترام القوانين وتوجيه السياسات العمرانية.
إلا أن الواقع يشير أحيانا إلى تغليب حسابات انتخابية على ضرورات السلامة، ما يساهم في توسيع رقعة الأحياء غير المنظمة.
3. الجماعة الترابية: أدوات ضعيفة ورؤية غير مكتملة
التعمير اختصاص أساسي للجماعات.
لكن ضعف آليات المراقبة، وتأخر تحديث أنظمة التدبير، وعدم تفعيل المساءلة، كلها عوامل سمحت بتوسع البناء العشوائي، وأنتجت مجالا عمرانيا هشا شبيها بالمقابر الواقفة .
4. البنّاء والمقاول: ضمير مهني غائب
بناء طوابق إضافية أو استعمال مواد غير مطابقة هو رهان على حياة الناس.
حين يُقدم الربح السريع على السلامة، يصبح الخطر مسألة وقت.
ثالثاً: الأزمة أعمق من جدار مائل
العشوائية في العمران ليست إلا انعكاسا للعشوائية في السلوك العام.
تقبل “الاستثناءات”، التطبيع مع المخالفات، والبحث عن حلول مؤقتة بدل التخطيط الطويل المدى… كل ذلك أنتج ثقافة تتسامح مع الخلل حتى يصبح عادياً.
القانون العمراني ليس وثيقة تقنية فقط؛ إنه الضامن الأساسي لسلامة المواطنين.
وتطبيقه ليس خيارا، بل واجبا.
رابعاً: ما العمل؟ نحو منع تكرار الفاجعة
لمنع حدوث فواجع مماثلة، لا بد من اعتماد مقاربة شاملة تشمل:
• محاسبة دقيقة وواضحة تطال كل جهة قصّرت أو تغاضت، بعيداً عن منطق التضحية بالحلقة الأضعف.
• مراجعة منظومة التعمير عبر رقمنة المراقبة، وتبسيط المساطر، وإغلاق منافذ التحايل على القانون.
• إطلاق برامج تأهيل للأحياء الهشة قبل أن تتحول إلى نقاط سوداء عمرانية.
• تحسيس المواطنين بخطورة البناء غير القانوني، واعتباره تهديداً مباشراً للسلامة العامة.
فاس مدينة عريقة تستحق حياة عمرانية آمنة وشفافة. فاجعة العمارتين رسالة مؤلمة مفادها أن إصلاح العمران يبدأ بإصلاح الإنسان والمؤسسات والسلوكيات.
والضحايا، رحمهم الله، يستحقون أكثر من الرثاء… يستحقون واقعا عمرانياً جديداً يحمي ما تبقى من أرواح.






