رأي

سامر أبو القاسم: حقيقة موت ومجاز حياة

تناهى إلى علمه نزولُ وفدٍ رفيعِ المستوى بالمقبرة، في إطار تشييعِ جناةِ رجلٍ ووضعِه في مُستقرِّه الأخير.

 استيقظ في قبره باكرا ذلك الصباح، مُنشغِلا برغبة في الخروج من أجل استنشاق هواء نظيف والتّمتع بما تيسّر من استجمام في ذلك اليوم الذي اتسم جوُّه بهطول أمطار خفيفة منعشةٍ لِمَا تحطّم من عظام موتى، ولملاقاة صاحبه الذي التحق بالأمس.

وما أن وضع قدميه على عتبة القبر حتى فوجئ بأنّه على الرغم من أنّ القبور مُخصَّصة للراحة الأبديّة، إلاّ أنّها ما عادت فضاءاتُها مُظلِمةً ولا مُوحِشة، ولا ظلّ الهدوءُ والابتعاد عن الصّخب سيّدَ الموقف، بل أصبحت عوالمُ الموت مُفعَمةً بالعيش بين طموحٍ وواقع وفرحٍ وحزن وحسنٍ وقبح.

صادف خروجه ذلك اليوم تخليدا لعيد الأحياء بالمقبرة؛ حيث يضع الموتى زينةً على رفاتهم وجماجمهم، وحيث تُقام عروضٌ أكثرُ غرابةً تتّسعُ من خلالها مساحاتُ خيال الموتى، لترسم وجوها بشرية مُقزِّزة ومُفزِعة، ولينخرط الجميعُ في طقوس رقصٍ وانتظارٍ لمجيء أحياء قصد الزّيارةِ وتأثيث الفضاء بالورود وروائح ماء الزهر.

كان الاعتقاد بأنْ لا وجودَ في البرزخ لنظامٍ خاص أو عام، ولا لشخصياتٍ عمومية نافذة أو عصاباتٍ مُتنفِّذة أو معابد أو فنادق أو مقاه أو حانات أو كازينوهات أو مطاعم أو خدمات توصيل طلبيات أو قاعات ألعاب أو محلات تجارية أو وسائل نقل أو حمّامات أو مراحيض عمومية أو أنظمة صرف صحّي.

فإذا به يفاجأ بالمقبرة مُكتظَّة بأناس يخافون الحياة أكثر من الموت وينامون ويستكينون لقبور أموات، ويُفضِّلون مجاورة موتى لتوفير أمكنة للعيش، ويجلبون للمقابر أثاثا، ويركنون عرباتهم على الجنبات وهم آمنون مطمئنون على ما امتلكوا من فوضى وفساد وعنف، ويتفنّنون في زخرفة المقابر على شكل منازل ذات طوابق وفيلات وقصور بعيدا عن أعين ورقابة أحياء.

وما أن عرَّج قليلا على بعض الشوارع والأزقة حتى تشابه الأمر عليه، وما عاد مدركا لحدود الفصل بين حقيقة الموت ومجاز الحياة، والتبس عليه أمر التحاق صاحبه بهذا المقام؛ أهو في إطار انتقال طبيعي في هذا الوجود، أم في سياق نزوح جماعي لمن فَضُلَ من البشر، أم في خضم ترحيل قسري لتوسيع مجالات الاستحواذ والنّفوذ بين أحياء؟