العضوية بأكاديمية المملكة المغربية تحمل في بلادنا معنى خاصاً لا تخطئه العين؛ فهذه المؤسسة الرفيعة لا ينتسب إليها إلا الكبار ، باعتبارها أحد أهم الفضاءات الفكرية التي تُصاغ فيها رؤى الثقافة المغربية، حيث تخضع الإشكالات الفكرية والاجتماعية والتاريخية للتدقيق والتحليل واعادة التركيب.
وهكذا ظلّت الأكاديمية منذ تأسيسها سنة 1977 عنواناً للرصانة الفكرية، ومنصة للحوار الجاد ، وورشة لصناعة المعرفة بعيداً عن ضجيج السياسة اليومية. لذلك، حين تُنصَّب شخصية جديدة كعضو شرفي، فإن الأمر ليس مجاملة ولا احتفالاً بروتوكولياً، بل اختيار له رمزيته في مسار الثقافة المغربية.
فقبل أيام، استقبلت الأكاديمية واحداً من الأصوات التي شكّلت وجدان جيل كامل في المغرب والعالم العربي؛ مارسيل خليفة . فالاسم لا يحتاج إلى تعريف، لان المعرف لا يعرف ولأن الموسيقى تكفلت بذلك منذ السبعينيات، يوم كان الشريط يتنقّل خفية بين الطلبة، ويؤثث مكتبات المقاومة الثقافية في زمن قليل الوسائط وكثيف الأسئلة.
الذين عاشوا تلك المرحلة يعرفون جيداً أن مارسيل لم يكن مجرد موسيقي؛ بل كان حالة كاملة، مزيجاً من الشعر والموقف والصوت والجرأة. كان شريك محمود درويش في صناعة ذاكرة حالمة وقلقة في آن واحد ،ورفيق الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم في رسم خرائط الغضب الشعبي بلغة موسيقية لا تشبه أي لغة أخرى. فالجامعات لم تكن مجرد فضاءات للدراسة، بل كانت مختبراً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، وكانت أغاني مارسيل جزءاً من أدوات الوعي الشقي التي تنتقل بين المدرجات والمقاهي والبيوت.
المغرب لم يكن بعيداً عن هذا النفس. بل ربما امتلك سرديته الخاصة مع مارسيل، سردية تختلط فيها السياسة بالذاكرة، والرقابة بالشغف، والكاسيت بالمعنى.
ما زلت أتذكر—من أربعين سنة مضت وكأن الحدث وقع أمس —حين كنت طالباً بكلية الحقوق بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. في إحدى ليالي الثمانينيات الثقيلة، طرق زوار الليل باب شقتنا المشتركة بحي زازا. كان ذلك الطَرق معروفاً في تلك المرحلة. وفي مفوضية الأمن دار الحديث حول قضايا الساحة الطلابية ووقائعها، لكن مفاجأتي الكبرى كانت حين بدأ أحد أفراد المجموعة يسأل عن أغاني خليفة، وكاسيت مارسيل ، وأداء أميمة الخليل.
فقد يبدو الأمر سريالياً اليوم لجيل Z لكنه وضع كان يعكس تماماً تلك اللحظة من تاريخ البلد .لحظة كان فيها الصوت المتمرد يُقرأ كإعلان موقف، وكانت الموسيقى تُعامَل كدليل وحجة على الانتماء.
اليوم، حين يعود هذا الإسم نفسه ليُكرَّم داخل واحدة من أرفع المؤسسات الرسمية في المغرب، لا يمكن للذاكرة إلا أن تقف قليلاً وتتأمل طول المسافة التي قطعها هذا البلد… والمسافة التي قطعناها معه.
العضوية الشرفية لمارسيل خليفة في أكاديمية المملكة ليست حدثاً ثقافياً عادياً. إنها لحظة رمزية تقول الكثير تقول إن المغرب تغيّر، وإن مؤسساته أصبحت قادرة على احتضان أصوات كان تأثيرها الشعبي أقوى من أي جهاز أو خطاب. وتقول أيضاً إن الثقافة، حين تصمد، تنتصر في النهاية، وأن الموسيقى التي كانت تُعتبر يوماً شبهة، أصبحت اليوم جسراً .
كم هو جميل أن نرى المغرب يفتح أبوابه لصوت حمل أحلام جيل كامل.
وكم هو جميل أن نرى الفنان نفسه يدخل الأكاديمية بصفته عضواً مُحتفى به، لا رمزاً وجب الاحتياط والحذر منه.
وكم هو جميل أن نقيس المسافة بين زمن الكاسيت وزمن الأكاديمية ، بين زمن الأسئلة الثقيلة وزمن الانفتاح الهادئ.
مارسيل خليفة، في النهاية، ليس مجرد صوتٍ من لبنان.إنه جزء من ذاكرتنا نحن أيضاً.
ذاكرة كنا نخفيها في جيوبنا… وها نحن نراها اليوم تُحتفى بها على منصة رسمية.
هذا هو المغرب الذي نحبّه ؛بلدٌ يتطور، قد يتعثر لكنه يُراجع نفسه، ويواصل السير… بصوتٍ جميل، وبخطوة واثقة.






