فن وإعلام

حين تُختزل الصحافة في أشخاص وتُضغط داخل حسابات نفوذ دقيقة

ميمونة الحاج داهي (تدوينة)

لم أعد أرى في ما يجري حول الصحافة نقاشا يستحق هذا الإسم. النقاش يفترض نية مشتركة في الوصول، أما ما نعيشه اليوم فصراع على من يملك الطريق، وعلى من يضع لافتته في نهايته. إنها حرب وراء حجاب تديرها عقول باردة ، وتجمل بلغة مهنية حتى لا تُفزع المتفرج تتسلح  بمفردات منضبطة تخفي أكثر مما تقول.

في هذه الحرب لا تُقال الأشياء كما هي. تُقصّ بعناية ثم تُعاد صياغتها لتبدو أخلاقية أوضرورية أو حتى نبيلة. المظلومية هنا تُستعمل كوثيقة اعتماد والدموع تُذرف بوعي كامل بوظيفتها الرمزية. لا أحد يبكي لأنه موجوع و لكن لأن البكاء هنا موقف سياسي محسوب. حتى القيم لا تُستدعى لذاتها تُستخدم لما تمنحه من حصانة مؤقتة ولما تتيحه من هامش مناورة.

الصحافة التي يفترض أن تكون موضوع الخلاف صارت مجرد Yسم كبير يُستعمل لتغطية معارك أصغر من أن تقال بصراحة.

أراها تُختزل في أشخاص وتُضغط داخل حسابات نفوذ دقيقة و لم يعد أحد يسأل كيف نحمي المهنة؟ الجميع يترقب الجواب على من سيتحدث باسمها ومن سيحتكر صوتها ومن سيقرر اتجاهها حين تتشابك المصالح وتضيق المسافات.

المشهد كله رقعة شطرنج التنقل فوقها بطيئا، القطع محاصرة الخلان تبادلوا الصفع عند أول تعارض و الأعداء في حرب استنزاف أفقدت الجميع توازنهم.... لا ثوابت هنا سوى المصلحة ولا وفاءات طويلة الأمد حتى المبادئ لها تاريخ صلاحية تُمدَّد عند الحاجة أو تُسحب بهدوء حين تصبح عبئا.

أكثر ما يقلقني ليس حدة الصراع إنما يخيفني تطبيعه..أن نُقنع أنفسنا بأن ما يحدث اختلاف صحي وأن نُلبسه إسم النقاش  بينما هو في جوهره معركة على السلطة داخل المهنة.

النقاش يبحث عن حل، عن صيغة مشتركة، عن حد أدنى من الإتفاق. أما ما نعيشه اليوم فيبحث عن الحسم أو عن إنهاك طويل يجعل العودة إلى طاولة واحدة أمرا بالغ الصعوبة.

لا أكتب هذا من موقع البراءة ولا من شرفة أخلاقية عالية..أبدا، أكتبه لأنني أرى المهنة تُستنزف في معارك لا تُبقي لها وقتا للتفكير في نفسها ولا طاقة لتجديد أدواتها أو ترميم صورتها. في الحروب قد يربح البعض جولة أو موقعا لكن المهنة وحدها تخسر دائما، وتخرج مثقلة بالشكوك والكسور.

وحين تنتهي هذه الجولات أو تهدأ مؤقتا، نكتشف أن ما انتصر لم يكن الصحافة بل الفراغ. فراغ الثقة وفراغ المعنى وفراغ القدرة على الاختلاف دون تدمير الذات. عندها فقط ندرك أن أخطر ما في هذه الحرب ليس قسوتها فقط و لكن لأن نتيجتها ستكون منتصر يفرض شروطه و مهزوم يخضع لها..الصحافة وطن أول فصل في دستوره لا حاكم ولا محكوم و للأسف الآن تشهد عهدا أفقدها سيادتها...