قد يقول قائلٌ إن هذا العنوانَ فيه شيءٌ من الغموض والغرابة لأنه، في أول وهلةٍ، لا تظهر، من خلاله، العلاقةُ بين هذه العناصر الثلاثة. لو قُلنا فقط "الليبرالية والجشع" لما ظهرت فورا العلاقة بينهما. والحقيقةُ أن الماءَ، كعنصر يلعب دورا حاسما في استمرار الحياة، له علاقة وطيدة بالليبرالية كاختيارٍ سياسي واقتصادي. وبما أن الليبرالية مرادفةٌ للجشع، فإن تدبيرَ الماء له علاقة، في آنٍ واحدٍ، بالليبرالية وبالجشع.
والليبرالية، كاختيار سياسي واقتصادي تُعطي الأولوية للمبادرة الحرة، أي أن كل مَن له رأسمال وأراد أن يستثمرَه في المجال الاقتصادي، فالباب مفتوح أمامه. ويبقى دورُ الدولة هو التَّقنين والتنظيم والمراقبة، وإن اقتضى الحالُ، توفير المساعدات لتشجيع المواطنين على الاستثمار.
و حينما أقول : "الماءَ، كعنصر يلعب دورا حاسما في استمرار الحياة"، فالمقصود ليس فقط الحياة بمفهومها البيولوجي، بل بمفهومها الواسع، أي الحياة بأبعادها الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، الصناعية، الفلاحية، التَّرفيهية، الطبيعية، البيئية…
بعد هذا التوضيح، هناك سؤالٌ يفرض نفسَه علينا وهو الآتي : لماذا الماء يلعب دورا حاسما في الحياة بمفهومِها الواسع؟
لأنه ليس هناك ولو مجال واحد لا يلعب فيه الماء دورا بكيفية أو أخرى. دون الدخول في التفاصيل، الماء، بالنسبة للكائنات الحية، له أدوارٌ بيولوجية، وخصوصا، فيزيولوجية حاسمة. بالنسبة للطبيعة والبيئة، بدونه تختل التَّوازنات الطبيعية والبيئية. وهنا، أثير الانتباهَ إلى أن الطبيعة ليست هي البيئة، وهذه الأخيرة ليست هي الطبيعة. الطبيعة هي كل ما هو موجودٌ على سطح الأرض من كائنات حية وغير حية ما عدا الإنسان. البيئة كوسط حيوي، اجتماعي، اقتصادي، ثقافي، حضاري، صناعي، زراعي، فني، تكنولوجي… ظهرت مع ظهور الإنسان. لكن البيئةَ environnement، كمصطلح، لم يظهر في لغة العلم إلا في أواخر الستينيات أو في بداية السبعينيات.
لكن المجال الذي، بدون الماء، لا يمكن أن يكونَ مفيدا ومنتجا، هو المجال الفلاحي. الفلاحة تستهلك ما يفوق 80% من المياه التي تتوفَّر عليها البلاد. وهذا يعني أنه، عندما تكون السدود مملوءة أو تكاد، وعندما تكون الفرشات المائية nappes phréatiques مشبَّعة بالماء، وتكون الجبالُ مكسوةً بالثلوج، ف80% من هذا المخزون تذهب للفلاحة. ال20% المتبقِّية موجَّهة للماء الصالح للشرب وللاستعمالات المنزلية، الترفيهة والصناعية. وهذا أمرٌ طبيعي أن تستهلك الفلاحةُ قدرا هائلا من الماء، وخصوصا، الفواكه والخُضر التي يكون الماءُ جزأً مهما في تركيبتِها البيولوجية، أي أن الماءَ يُشكِّل جزأً كبيرا من وزنِها.
ما ليس طبيعي هو أن الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام، رغم معرفتِها للوضع المائي للبلاد، ورغم معرفتها أن مناخَ بلادنا يترواح بين مناخ جاف أو شبه جاف، لم تتَّخذ أي إجراءٍ لمواجهة المستقبل. بل إنها أخضعت هذا المستقبل للضربة القاضية عندما تبنَّت مخطَّطَ المغرب الأخضر plan Maroc vert.
وحينما أقول إن مناخَ بلادنا يترواح بين مناخ جاف وشبه جاف، فهذا يعني أن معدَّلَ التساقطات المطرية يتموقع، في أحسن الأحوال، بين 400 و 1000 ميليمتر سنويا. وهذا يعني أنه، بالموازاة مع مخطَّط المغرب الأخضر، كان من الازم وضعُ سياسة لمواجهة، مستقبلا، أزمة الماء. لا شيءَ من هذا حدث!
ما حدث فعلا، وبطريقة مأساوية، هو أن الليبرالية، إن لم تُوضَعْ لها خطوطٌ حمراء، فإنها تُفرِز الجشع la cupidité. والجشع لا يعترف بالخطوط الحمراء. ما يعترف به هو ملءُ الجيوب والإثراء السريع. علما أن شِعارَ الجيوب الجَشِعَة هو : "ومن بعدي الطوفان". كيف ذلك؟
من بين ما جاء به مخطَّط المغرب الأخضر هو تشجيع تصدير المنتجات الفلاحية. والتَّصدير لا يمكن أن تقومَ به إلا الضيعات الكبرى. فمن البديهي أن الجزءَ الأكبر من المياه، المُخزَّنة في السدود، كان يذهب لهذه الضيعات. والتَّصدير تشجِّعه الليبرالية التي تُفرز الجشع. والجشع يضرب عرضَ الحائط كل القيم وكل المبادئ.
أما الفلاحون المتوسطون والصغار، وهم كثرةٌ، غير المعتمدين على التَّصدير، وهم الذين يُزوِّدون الأسواق الداخلية بالخُضر والفواكه والحليب…، فإنهم يعتمدون على حفر الآبار. وإن كانت، في الماضي، هذه الآبار توفِّر الماءَ في عُمقٍ يترواح بين 20 و 30 مترا، فاليوم، فهؤلاء الفلاحون، مدفوعون بالجشع وتحت حمايةٍ آمنة من طرف الليبرالية، مجبورون للحصول على ماء السقي، على حفر آبارٍ يترواح عمقُها بين 300 و 400 متر. وهذا يعني نضوبَ المياه الجوفية بالتَّدريج، وحتي العميقة منها.
أرأبتُم الوضعَ الذي تعاني منه بلادنا من جفافٍ حاد sécheresse extrême وإجهاد مائي stress hydrique لا مثيلَ لهما فيما مضى من الزمان؟ إن هذين الجفاف الحاد والإجهاد المائي ناتجان عن سياسة اقتصادية ليبرالية التي، إن لم تُوضَعْ لها خطوطٌ حمراء، فإنها تُولِّد الجشع. والجشع، في مجال الفلاحة، يقود إلى ندرةٍ الماء!
فأين هي الأحزاب السياسية التي تتشدَّق ليلَ نهارٍ، بالمواطنة وحب الوطن؟ فهل هناك حزب سياسي واحد أقام الدنيا وأقعدنا وجعل من مشكل الماء همَّه المستعجل والبعيد المدى؟ ولولا مبادرة ملك البلاد للتَّصدِّي لهذا المشكل، لبقي معلَّقا إلى يوم يُبعثون!
بل أحزابنا السياسية، وخصوصا، منها الحاكمة، لا يهمُّها أن يصبح الماءُ عنصرا نادرا أو عنصرا، ربما، ستضطر السلطات إلى اتِّخاذ تدابيرَ صارمة لتقنين توزيعه واستهلاكه. فما هو، إذن، دورُ الأحزاب السياسية في تدبير الشأن العام؟ أحزاب سياسية ليست لها أية جرأة لاتِّخاذ المبادرات والقرارات! تنتظر دائما التَّعليمات الفوقية!