تحليل

استدامة المالية العمومية ومطرقة الاستدانة

إدريس الأندلسي
مديونية المغرب تعادل دخله السنوي. هذا هو واقع ماليتنا العمومية. المقصود بالكلام أن المالية العمومية تضم الخزينة العمومية ومؤسسات ومقاولات الدولة وكل الجماعات الترابية. وحين نتكلم عن استدامة المالية العمومية يجب علينا أن نربطها بكل مؤسسات الوطن. الناتج الخام الداخلي لبلادنا لا زال متوسطا ولن يتجاوز عند نهاية سنة 2024 حوالي 1450 مليار درهم. وبالمقابل يحتاج اقتصادنا ومؤسسات بلادنا إلى كثير من الاستدانة الداخلية والخارجية لتغطية حاجيات بلدنا. وتظل الخطابات الرسمية مطبوعة بقليل من التحليل الموضوعي لواقعنا. التحديات كبيرة وتحتاج إلى رجال الدولة القانعين والمقتنعين بأولوية بناء الوطن أولا وأخيرا.

جرت العادة لدى المتابعين من الإقتصاديين وأهل السياسة إلى تلخيص المديونية العمومية في مؤشر، يكاد يكون الأوحد، وهو نسبة حجمها إلى الناتج الداخلي الإجمالي. ويبين هذا المؤشر مدى قياس تطور المديونية بنسبة نمو الناتج المشار إليه. يظهر هذا النوع من القياس، على العموم، أن لجوء الحكومة إلى الاستدانة، وخصوصا الخارجية منها، يرهن مستقبل النمو الإقتصادي وكذلك التوازنات المالية المرتبطة بالمالية العمومية، وتلك التي ترتبط بالحسابات الخارجية المتعلقة بالحساب الجاري لميزان الاداءات. ولكنه يبين كذلك ضعف مساهمة الموارد الجارية من ضرائب ومساهمات المؤسسات والمقاولات العمومية في تغطية النفقات العمومية.

ويجب التأكيد على أن السبيل الوحيد لسد النقص في التمويل، في ضوء وضعنا المالي الراهن وسياساتنا العمومية ومحدودية حكامتنا، هو اللجوء إلى المديونية. بلغ حجم مديونية بلادنا ما يزيد على 1000 مليار درهم عند منتصف 2023. ولا يضم هذا الحجم إلا مبلغ مديونية الخزينة العمومية دون احتساب مديونية مؤسسات القطاع العام التي تتجاوز أكثر من 300 مليار درهم. ويكاد حجم المديونية العمومية يعادل 100 % الناتج الداخلي الإجمالي لبلادنا.

تطرق الوزير المنتدب لدى وزيرة الاقتصاد و المالية، قبل أيام، إلى موضوع يهم استدامة المالية العمومية، طرح مجموعة من المعطيات والأرقام مبرزا جهود الحكومة في التوفيق بين تمويل متطلبات "الدولة الإجتماعية" المكلفة ماليا، وبين تحقيق التوازنات المطلوبة لاستدامة المالية العمومية. عرض الوزير يبدو مقنعا بالنظر إلى أرقام تتعلق بتحملات الخزينة العمومية وتطور القدرات المرتبطة بالتمويل الجاري أو العادي المرتبط، أساسا، بتطور المداخيل الضريبية. يتوقع ان تصل هذه الأخيرة إلى حجم قد تبلغ قيمته، حسب قانون المالية لسنة 2024 إلى حوالي 311 مليار درهم مقابل حوالي 435 مليار درهم كمصاريف للتسيير والإستثمار. وينص قانون المالية على اللجوء للاستدانة بمبلغ قد يصل إلى حوالي 123 مليار درهم. ستضطر الخزينة إلى تغطية العجز المتبقي عبر اللجوء إلى الاستدانة التي يقل أجل تسديدها عن سنتين بمبلغ حدده قانون المالية في حوالي 64 مليار درهم. وبالمقابل سنضطر إلى تسديد أقساط رأس المال برسم سنة 2024 بمبلغ يتجاوز 62 مليار درهم يضاف إليه مبلغ يزيد على 38 مليار درهم يخص الفوائد السنوية لحجم ديون الخزينة. ويبين إجمالي هذه الأرقام أن زيادة الاستدانة الداخلية والخارجية توازي مبالغ تسديد أقساط الدين وفوائده. ولانتكلم هنا على ثقل الديون التي لا تتجاوز مدة تسديدها سنتين. وهنا يطرح سؤال استدامة التوازنات المالية.

ويبدأ عرض الوزير المنتدب فوزي لقجع بسؤال يتعلق بتاريخ ممارسة سياسية لتدبير الشأن العام: "من أين بدأنا؟". السؤال حمال لثقل سياسي بامتياز. من أين بدأنا، ماذا؟ وكيف؟ ومع من بدأنا ولماذا بدأنا؟ وماذا حققنا مع من بدأنا معه مسيرة سياسية منذ سنة 2010. وللتذكير الواجب لمن يتنكر للممارسة السياسية، وجب القول أن هذه السنة شهدت سيرورة حكومية تحت رئاسة الأمين العام السابق لحزب الاستقلال الأستاذ عباس الفاسي. ولزم القول أن هذا الإنسان المتواضع سلوكا و ممارسة، والملتزم بقواعد المسؤولية السياسية الحكيمة، حرص على ديمومة التوازنات الإجتماعية والسياسية بشيء من الحكمة. نعم التزم، بحكم ظروف صعبة، بكثير من المسؤولية وحافظ على الأمن المجتمعي رغم ضغط ثقل صندوق المقاصة الذي تجاوز خمسون مليار درهم. واضطر إلى مواجهة معضلة عطالة خريجي الجامعات ووقع معهم اتفاقا اعتبره بن كيران مكلفا جدا و تنكر له دون تحليل سياسي لمرحلة كانت تتطلب حنكة سياسية. وهكذا سقط في فخ "تقنوقراط مناورين "تلاعبوا بحداثة عهده بالسياسة. و بعدها تنكروا له واوقعوه في مواجهة مع قاعدته الانتخابية التي انفضت من حوله خلال انتخابات خدمت متنكرين في صفة متحالفين معه.

ويجب التذكير أن عهد حكومة عباس الفاسي كان صعبا وتزامن مع ما سمي بالربيع العربي. وكان ما كان من هلع ونزوح نحو ضرورة الإصلاحات الدستورية التي أقرت توجها كبيرا و قويا نحو مغرب الحقوق ومؤسسات الحكامة. وجاء حزب العدالة و التنمية ليمرر قوانينا "رنانة " استهلكت خطابيا و لا علاقة لها بالعدالة الإجتماعية مضمونا وليس شكلا. تغاضى الزعماء عن الشفافية الإقتصادية وقبلوا سلطة شركاء، ذوي مصالح كبيرة، فانتهوا إلى التعرض لحملات مخدومة اوصلتهم إلى ما هم عليه الآن. ولم يكونوا على علم بعلة أصابت قبلهم من آمنوا بسذاجة على قدرتهم على الإصلاح إن استطاعوا.

ويستمر عرض الوزير المنتدب تحت شعار: من أين بدأنا؟ . من حق الفاعل السياسي أن يطرح السؤال السياسي إن كان يؤمن بالسياسة وبضريبة الوفاء للالتزام نحو كل ما يربطه بالوطن وكل مكوناته. أود أن أذكر أن المسؤولية تقتضي خطابا واضحا في مجال المالية العمومية وخصوصا ان كان المستضيف للقاء من قاد حكومة عقدت صلحا مع مطالبين بموقع في فضاء المرافق العامة وعلى رأسها التربية الوطنية. ولكنني أؤكد بكل وعي على أن بلادي لازالت غارقة في أوحال اقتصاد الريع. أؤكد على أن خبرات المغاربة قادرة على خلق الثروات والإسهام في مضاعفة الناتج الداخلي الإجمالي لو قضينا، بكل حكمة، على اقتصاد الريع، سيدي الوزير، وأيها المحترمون وقادة الحكومة. أشعر أن هذه الحكومة تبكي صوريا على عدم الوفاء بالتزاماتها الانتخابية. ويطرح الوزير سؤال: من أين بدأنا؟ ثم يتذكر حرب روسيا و أوكرانيا التي لا ترجع إلى 2010. تمنيت لو تحلى هذا الخطاب المهني والتقنوقراطي بشيء من ذكر ما يعانيه الشعب الفلسطيني. وكثيرة هي الدول الأوروبية التي تأثرت بحرب الابادة الصهيونية على فلسطين. أرقام اقتصادنا لا تقرأ ببرودة سلوك الموظف و كن بوعي المسؤول السياسي. وكثير من أعضاء هذه الحكومة لا علاقة لهم بالسياسة و كثيرة علاقاتهم بمجالات أخرى. وذلك شأنهم في ظل قوانين البلاد..

وتكلم الوزير المنتدب لدى وزيرة الإقتصاد و المالية، و يكاد الجميع يقر بأنها أقل قوة منه، وبسط رؤيته حول الالتزامات الإجتماعية التي أقرها عاهل البلاد بعيدا عن التجاذبات السياسية والنقابية . قال ملك البلاد أن الحلول الترقيعية في مجال التغطية الإجتماعية غير ذات فعل على الواقع. و لهذا أمر الحكومة باتباع سياسة التغطية الإجتماعية. واتضح أن الخطاب التقنوقراطي مستعد لتبرير التحول إلى مجال الإرادة السياسية. المشكلة الحقيقية هي في الأصل كذبة كبيرة. الدولة الإجتماعية ولدت مع حصول المغرب على إستقلاله. رفعت الحكومات الأولى شعارات و سياسات ركزت على الولوج إلى التربية و الصحة و التأمين الإجتماعي منذ 1956. المغرب كدولة مستقلة بدأت بتأسيس العمل الإجتماعي من خلال المدرسة والمستشفى. ولمن يجهل هذا التاريخ وجب عليه الرجوع إلى خطابات الراحلين الكبيرين محمد الخامس والحسن الثاني. كانا يحيطان التعليم والولوج إلى العلاجات بعناية خاصة. والمغرب كان دائما دولة إجتماعية رغم الإخفاقات التي نتجت عن برامج التقشف التي فرضتها المؤسسات المالية الدولية في بداية الثمانينات. وقد تمكنت أجيال من أبناء الشعب إلى الولوج إلى الجامعات داخل المغرب وخارجه بكثير من الإرادة و التمويل العمومي. ولا زالت أموال تقدر بالملايير على مستثمرين دون وضع إطار صارم لربط عطايا الشعب عبر الميزانية بنتائج في مجال التنمية و التشغيل و خلق القيمة المضافة.

و لا أدري لماذا ركز الوزير المنتدب على ربط التوازنات المالية بتنزيل سياسة إجتماعية تروم تغطية صحية ومحاولة لخلق مظلة تخفف من نار التكاليف المالية للولوج إلى الخدمات الصحية والإجتماعية. تمنيت لو تمت الإشارة بشيء من الموضوعية إلى الهدايا و المنح العقارية والضريبية والفلاحية التي استفاد منها كبار القوم على مدى عقود دون محاسبتهم. تغرقنا الحكومات المتعاقبة بالكثير من التقارير المصاحبة لقانون المالية دون أي تقييم اقتصادي لمجهودات الدولة في كافة القطاعات. وسيظل بلدنا السعيد يخدم طبقة تمسك بالقرار الإقتصادي في كل القطاعات من البنزين إلى اللحوم والمدارس والعقار والطماطم. وسيظل دعم بورجوازية العقار وكثير من القطاعات خاضعا لغياب الرقابة على سوق الولوج إلى السكن.

وسيظل المضاربون في أضحية العيد ولتر البنزين وقرار التعمير هم الممسين بالمجالس الترابية وبصفة ممثل الأمة. استدامة التوازنات المالية العمومية في ارتباطها بالسياسات الإجتماعية يجب ربطها بالديمقراطية وبالمحاسبة وبتفعيل كل آليات الحكامة بما فيها ضبط صارم لغياب المنافسة في مجال المحروقات التي تحرق جيوب ذوي الدخل المحدود.

هذا هو السبيل الأوحد لبناء مغرب حسب توجهات ملك يعد ملاذا للمواطنين ضد من ينتهزون كل المواقع لخلق روح عدم الثقة في المؤسسات. ولعل آخر مثال الشجاعة الواجبة لاستدامة المالية العمومية هي فتح ملف دعم الغاز. ملايير الدعم تذهب إلى الأغنياء بنسبة 90 %. ويسري الأمر كذلك على السكر والدقيق الوطني.