قضايا

الأسرة بين وجع اعتقاد ومخاض حقوق: 9 - خلل في الاعتقاد والتفكير(أ)

سامر أبو القاسم

قد يشعر الإنسان بتأثير التغيرات المناخية فيسارع إلى البحث عن الأسباب والعلل، والتدقيق في توقع حجم وحدة الانعكاسات، والتعمق في إيجاد الحلول الممكنة والمتاحة. لكن وبالمقابل، يظهر أنه من الصعب إدراك الخطورة حين يتعلق الأمر بتلوث قيمي وعجز عن إبداع أنظمة فعالة للتحكم فيه ومعالجة "الصرف الأخلاقي" المتدفق في أنهار التفاعلات التي ما عادت إنسانية، بفعل ارتفاع معدلات الفقر والتهميش وما أنتجاه من سوء في المعاملات بين الناس ومن انحراف في السلوك ومن تعكير لصفو الحياة داخل محيط العيش.

وإذا كان الدين الإسلامي يُعَرف بكونه تصديقا قلبيا وإقرارا باللسان وعملا بالجوارح، فالحاجة ماسة اليوم إلى إعادة النظر في ارتباك علاقة الناس بالحياة من حيث الارتباط المفترض بين الجانب الروحي والتعبدي في العلاقة بالتقرب إلى الله تعالى، وبين الجانب الأخلاقي ذي الصلة بالذات وبناء الشخصية المكتملة والمتزنة، وبين الجانب العملي فيما يتعلق بالتعامل مع الناس والمحيط.

وهو ما يفرض الحاجة إلى مجتهدين غير مقتصرين على ما تلقوه من معارف في مختلف مجالات العلوم الشرعية، بل فطنين ومتيقظين وواعين بطبيعة وشكل التحولات والتغيرات التي تعرفها حياة الناس ويغرق فيها معيشهم اليومي وتتأثر بها معاملاتهم عبر مختلف جوانب التفاعل والاحتكاك داخل المجتمعات، بغرض ربط المستويات الروحية والتعبدية للدين والمعتقد الديني بميزان القيم الإنسانية والروابط الاجتماعية والوطنية، بما تكفله من حقوق وحريات وتفرضه من واجبات والتزامات.

فوضع الناس اليوم بالبلدان الإسلامية أشبه بالسباحة في نهر جارف من الفساد. والكتلة البشرية أصبحت عائمة على سيل خاطف من التفاهة وما تُفرخُه من رذائل. حتى يكاد يكون العبور في حياة الناس مشروطا بتوفير كاسحة من الإجراءات والتدابير لدحر تلك الطبقات السميكة من الانحراف في الممارسات والتصرفات والسلوك، وبخلق شروط مرافقة الناس وتحريرهم من مظاهر فساد سبل العيش وتجلياته، كحاجة أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى.

وكما لم يحدث من قبل، فالأزمة الثقافية تخلق اليوم إحباطا أخلاقيا وتضاربا على مستوى القيم، بالشكل الذي لم يعد يسمح سوى بالتفاهة من ناحية، ومن ناحية أخرى بتصوارت مطلقة للهوية في علاقة بالرغبة في الهجرة من الحاضر نحو استعادة الماضي تصوار وتمثلا وفي الاندماج الاستلابي في الواقع القائم.

حتى ليَكَاد المُتنبه لهذا الانفلات يتساءل مع ذاته: ألهذا الحد اخترقت البداوة نسق المجتمع والتنشئة والتربية والمؤسسات؟ ألهذه الدرجة من الصفاقة تقهقرنا وتخلفنا بالمدرسة والمدينة والثقافة؟  أَكُنا في حاجة إلى نسج كل هذه القيم من التدمير والعنف والرفض والسلب؟ أوليس ممكنا السعي إلى النجاح في تجاوز الصعوبات ورفع التحديات بمحفزات قيمية مستندة إلى مبادئ عملية وقيم إنسانية، لإحداث النقلة النوعية اللازمة لتوفير شروط حياتية أفضل؟ أوليس معقولا المطالبة بعدم الارتهان لهذا الاهتزاز الحاصل في القيم والمرجعيات، لتجاوز الأزمات دون مَسٍّ بالقيم الدينية والوطنية ولا إضعافٍ للروابط الاجتماعية والأسرية ولا إخلال بمقومات التضامن والتماسك ولا تعطيلٍ لمسارات التنمية أو إضعافٍ لشروط إعمال عدالة اجتماعية ومجالية؟

يبدو أن جعل النص الديني ناطقا بحقوق الإنسان في إطار تنشئة متوازنة وتربية هادفة يَعدُ في هذا الإطار بالشيء الكثير، من حيث الدمج بين العقلانية والواقعية في صياغة معايير صالحة، تستحق إعطاءها فرصة تحرير المجتمعات الإسلامية التي لا زال يسكنها هَوَسُ الماضي والتراث "الراقد"، وهي جديرة بإحداث نقلة قادرة على جعله متمكنا من حيازة اعتراف كوني دون أي تردد.

ويكفي لذلك إبطال المفعول السلبي المتمثل للتراث كموروث ضد حقوق الإنسان، ويكفي العمل على تجسير العلاقة بينه وبين الحقوق الفردية وتفادي نقض العقل. خاصة وأن التفكير الديني بإمكانه التحول إلى ممارسة تفسيرية وتأويلية لصالح الإنسان بناء على قاعدة العقل والصدق وأدوارهما في الوعي بالحق.

إن المنظور الديني لم يكن في يوم من الأيام مقصوار على تصوارت بعينها للسلف ورؤيتهم للعالم ونظرياتهم في المعرفة والوجود دون غيرها، إلا بفعل ما وقع من انجراف وارء غلو وتشدد بعض الفقهاء والخطباء والوعاظ والدعاة. والحال أن هذا المنظور من زاوية الاجتهاد يركز بالأساس على الأفعال التي يمارسها الأفراد والطريقة التي يمارسونها بها. فما يدعو إليه البعض من تجديد للخطاب الديني، لا يمكن تصوره إلا في ارتباط بصيروارت الحق الإنساني في الوجود، وهو ما يعطي قيمة للدين ذاته. ولن يتأتى ذلك إلا بطرح المشكلات في التفكير الديني الذي يجعل الدين حيا ومتجددا يساير تطور العصر. إذ لا محيد عن إقامة نوع من التوفيق بين معطى النص ومعطى الواقع على قاعدة النقد والإبداع. 


إن مفعول التنشئة والتربية على المواطنة وحقوق الإنسان والنوع الاجتماعي، كممارسة مجتمعية عموما وأسرية على وجه الخصوص في الوقت الحاضر، لا يخرج عن سياق الرغبة في الانفتاح على تحقيق نوع من التواصل بين التعاليم الدينية وهذه المفاهيم الجديدة والمُجددة، ولا يهدف سوى إلى استثمار ما توفر من نصوص شرعية في الكتاب والسنة ذات حمولة إنسانية مراعية لتدين الناس ومجالات تحركهم بما ييسر تدبير شأن معيشهم اليومي وحياتهم العامة.


فالقضية مشروطة برسم أهداف للتنمية تأخذ طابع الدقة والجدية بحضور مُوجهات دينية قادرة على إعادة ربط الفرد بالأخلاق من ناحية، والتواصل مع مضمون التحولات الجارية الذي يصعب اختزاله في الخصوصية أو الهوية المطلقة من ناحية أخرى. فالكل يدرك أن صدمة التحول قد تفرض قيما جديدة أو تولد ارتدادا اجتماعيا أو تنتج حالة من الفراغ القيمي.


ولكي لا يزيد الأفق انسدادا، ويخلق ضبابية قيمية وشتاتا أخلاقيا وأفولا لمعيارية الوجود وتضخما في أخلاقيات السلب والتدمير والهيمنة، كان لابد من التفكير في تجسير العلاقة بين الدين والقيم على قواعد العقلنة والتنوير والرغبة في التطور، وفق ما تقتضيه أسس الإبداع وليس بمنطق التقليد والتشبث الأعمى بالموروث. خاصة وأن مفهوم حقوق الإنسان يحيل على منظومة من القيم والمبادئ ذات الارتباط الوثيق بضمان الكرامة الإنسانية لكافة الأشخاص، عبر حماية مجموعة كبيرة من الحقوق والحريات، وعلى تراكمات تاريخية متتالية للبشرية من أجل إحقاق هذه الكرامة وعلى كيفيات انتظام العلاقات بين الناس وفقها، وعلى قوانين مصاغة حسب الشروط الممكنة والمتاحة لإحقاق العدالة ومحاربة الظلم، وعلى تحديد الحقوق والحريات والخيارات الضرورية لتَفَتح كل كائن بشري.


ويمثل مجال حقوق الإنسان طبعا مسلسلا متواصلا من التطور، ومن استكشاف حقوق جديدة تعكس تطور المجتمع المدني وعلاقته بالمجتمع السياسي، وكذا الرغبة الأكيدة للإنسان في تدوين هذه الحقوق عبر مواثيق وإعلانات من جهة، وإحاطتها بالضمانات اللازمة التي تحولها من مجرد إعلانات إلى ضوابط تتمتع بالإلزامية القانونية التي لابد منها لكل قاعدة قانونية. ولم يعد الأمر مقتصرا على مجتمع أو دولة معينة، بل إن كافة المجتمعات قد انخرطت بصيغة أو أخرى في هذا المجهود الإنساني.


فتحقيق كرامة الإنسان، التي تشكل حجر الزاوية في منظومة حقوق الإنسان يتطلب كذلك محاربة الأفكار والنزعات التمييزية، مهما كان مصدرها، ومحاربة الاتجاهات التي تحاول بث الحقد والكراهية، مستغلة شروط الأزمة التي تتخبط فيها الكثير من المجتمعات، ولا يمكن أن تتحقق هذه الكرامة إلا بإقرار تشريعات وآليات فعالة قمينة بمحاربة كل الانحرافات. كما أنه، وبالضرورة، ينبغي استحضار عملية تقدير التداعيات الحاصلة على النساء والرجال نتيجة أي إجراء أو عمل مخطط له، بما في ذلك التشريعات والسياسات والبرامج في كافة المجالات وعلى جميع الأصعدة.


فمقاربة النوع الاجتماعي هي استراتيجية لجعل مشاغل وخبرات النساء والرجال على حد سواء بُعْداً أساسيا في تصور وتنفيذ ومتابعة وتقييم السياسات والبرامج في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والمجتمعية، بحيث يصبح بإمكان الرجال والنساء الاستفادة على حد سواء وإيقاف مسلسل مفاقمة اللامساواة.


لذلك، فمن غير المعقول تماما عند كل نقاش بخصوص هذا الموضوع في علاقته بالإطار المعرفي والمرجعي ألا يتم استحضار سوى المواثيق الدولية بغرض التهجم على ثقافة حقوق الإنسان والمدافعين عنها باسم الخصوصية الدينية والثقافية. بل ويتم عنوة استبعاد المصادر الوطنية من موروث محلي، ومن مقتضيات دستورية وإجراءات ذات طابع تشريعي وعملي مرتبط بحقوق الإنسان، ومن أصول فلسفية ذات صلة بالنزعة الإنسانية وفلسفة الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي، ومن مساهمة باقي الثقافات الأخرى وامتلاكها لرصيد في ميدان حقوق الإنسان. علما بأن القاسم المشترك في كل هذه العناصر هو المقاصد الكبرى من ثقافة حقوقية؛ من قبيل تحقيق كرامة الإنسان ككائن بشري وإنماء الإنسان في جميع المجالات وتحقيق السلم والاستقرار داخل المجتمعات، وهذا هو بيت القصيد.  


وفي ظل التحولات العميقة التي تشهدها المجتمعات الإسلامية، هناك حاجة إلى تطوير ردود أفعال إنسانية سليمة لدى كافة الناس، وزرع نفس جديد في الحياة الأسرية خاصة والمجتمعية بشكل عام، ليصبحا مشتلا ميدانيا للنهوض بالقيم والمبادئ الحقوقية الكونية، في اتجاه إحداث التحول المنشود والمأمول لترسيخ ثقافة المواطنة. فالتنشئة على حقوق الإنسان، هي في نهاية المطاف انعكاس لحق الأفراد والجماعات وحاجتهم في تقوية وتطوير كفايات وقدرات المواطنة، بما هي حقوق وواجبات، من أجل المشاركة والمبادرة والتطوع لخدمة المجتمع وتسييره.


فالأمر إذاً، مرتبط بشكل كبير بما هو مطلوب اليوم من توجيه للأجيال الناشئة إلى اتجاهات وميول نحو هذه الثقافة، وإلى مواقف وممارسات تمتح من معين هذه الثقافة التي تسعى إلى تحقيق الكرامة، ليصبح سلوك الناس منضبطا للمنظومة القيمية الحقوقية بنسب مشرفة، وليبتعدوا شيئا فشيئا عن العديد من الصور النمطية التي تحملها الثقافة العامة السائدة في مجتمعاتنا في نهاية المطاف.


وبدلا من صرف الكثير من الجهد وإضاعة الوقت في مهاجمة ثقافة حقوق الإنسان بناء على إسقاطات واهية وواهمة، فالأجدى الوقوف على دلالات مفاهيم قيمها، لإزالة الغبش الحاصل بفعل ما أقدم عليه العديد من الفقهاء والخطباء والوعاظ والدعاة ومناصريهم من إجرام في حق المدافعين عن هذه الثقافة.


فالكرامة في نهاية المطاف لا تحيل إلا على شعور الشخص بالاعتزاز بالنفس واحترام الذات وعدم قبول الإهانة من الآخرين. كما أنها لا تعبر سوى عن الفضيلة والاحترام والاستقلال الذاتي والتشبث بحقوق الإنسان وحرياته.