رأي

عزيز كوكاس: حين يمشي العمر بجانبك

لم تكن الرحلة من بروكسيل إلى لوكسمبورغ مجرد عبور مدن، بل عبور داخل الذات بصحبة من يعرف ظلالك قبل أضوائك. مصطفى الحلوي ليس مجرد رفيق طريق، بل مرآة عبرتُ معها سنوات التشكل، وشهد تفاصيل سقوطي الأول وابتسامتي التي تعلمت أن تقوم بعدها.

في بروكسيل، المدينة التي نهضت من المستنقع، كما نهضنا نحن من ركام العمر، سرت ولم يغادرني..  بين الأزقة الحجرية وكأننا نفتّش في حوارات الأمس عن ظلالنا الأولى. أمام مبنى البرلمان الأوروبي، ضحكنا معا من مفارقة أن تكون هذه المدينة - التي كانت يومًا مستنقعًا - مركز القرار في قارة معقدة. قلنا إن الحياة أيضًا تمنح من نشأ في الطين فرصة أن يصبح حجر أساس في معمار ما. وقلنا إننا، بطريقتنا، صرنا نعرف كيف نبني من الخسارات شيئًا يشبه الحكمة.

وفي المقاهي الصغيرة التي تفوح منها رائحة الشوكولا والفطائر، تذوقنا الطفولة التي فقدناها مبكرًا، واستعدنا بحنين حذر نكت ذلك المراهق الحالم الذي كنّاه ذات زمن، حين كان السفر مجرد خيال.

وبين أزقة وشوارع لوكسمبورغ، المدينة الحصن، الصغيرة كقصة مختبئة والعميقة كعُزلة مقصودة. كان فيها شيء من الهدوء الذي يشبه حديثنا بعد سنوات: لا حاجة للكلمات الكثيرة، فقط الإيماءة، النظرة، الصمت المطمئن. تأملنا قلعتها العتيقة، وقلنا: هذه المدينة تعرف كيف تحرس جوهرها بصمت، كما نحرس نحن صداقتنا من تآكل الزمن.

على جسر "المدينة العليا"، وقفنا طويلًا نطالع امتداد العمر، وكم مرة أنقذ أحدنا الآخر دون أن يقول: أنا أنقذتك. هناك، أدركنا أننا لم نسافر لنكتشف مدنًا بل لنُكمل الحوار الذي بدأ قبل أربعين سنة، دون استعجال، ودون نهاية معلنة.

في لوكسمبورغ سكنّا لحظةً خارج الزمن، واختبرنا لذة أن يكون معك من لا تشرح له شيئًا، لأنه ببساطة يعرف. لم يكن ذلك مجرد عبور مدينة، بل عبور داخل الذاكرة، تلك الفسيفساء العميقة التي اسمها الحياة. مشيتُ فيها هذه المرة بجانب مصطفى الحلوي، لا كرفيق سفر، بل كأخٍ خُلِقَ من رحم الأيام لا من الدم.

مصطفى الحلوي الذي جلس جواري في مقاعد الدراسة، ورافقني لا في النجاح فقط، بل في انكساراتٍ أخفيتها عن الجميع. في الحوارات الصامتة، حين لم تكن الكلمات تنقذنا، كان حضوره يرمم الصدع. في تلك السنوات التي يصعب تسميتها، سنوات التشكل، كان مصطفى شرفة أطل منها على الحياة دون أن أتهاوى.

وفي إيش وريميش وفي شمال فرنسا وغيرها نهضنا من شكوكنا وخوفنا الأول، تجوّلنا كمن يستعيد أول درس في الجغرافيا، لا في الأرض فقط، بل في النفس. وضحكنا من مفارقات العمر، من أيام الفقر والكتب المستعملة، إلى مقاعد القطارات الحديثة التي تحملنا معًا، لنختبر عالَمًا لم نكن نحلم ببلوغه ونحن نعدو خلف الحصص. جلسنا في مقاهي بسيطة وأخرى فارهة كأننا نلتهم طفولتنا الضائعة على أرصفة الوطن، وتحدثنا عن أمهاتنا، عن الطباشير وعن كروسة العصير والباب الحديدي بالقامرة، عن تلك اللحظات التي كنا فيها خائفين ولم نُظهر ذلك لأحد.

من بروكسيل إلى لوكسمبورغ كان يسبقني قلبي إلى مصطفى، الساكن في هذه المدينة الصغيرة، الهادئة كسرّ والحصينة كذاكرة رجل لا يبوح. كان فيها ما يُشبه مصطفى الحلوي، تأملنا قلعتها القديمة، وقلنا إن المدن مثل البشر، ما تحفظه في عمقك يحميك أكثر مما ترفعه على الواجهة. ووحدها الصداقة التي لا تحتاج لإثبات كانت تتنفس بيننا. لا شيء يُقال، لكن كل شيء يُفهم. سنوات مرت، أناس عبروا، أما مصطفى، كما الأصدقاء الحقيقيون الآخرون، فقد بقي... ظلّ وجهًا ثابتًا في ألبوم حياةٍ كثيرون فيه كانوا مؤقتين.

رحلتنا لم تكن بحثًا عن مدينة، بل عن لحظة نادرة، ولم تكن لوكسمبورغ قلعة فقط بل مرآةً لصداقتنا التي صمدت، بصمت، كما يصمد الحجر القديم في وجه الزمن.