تحليل

خطبة الجمعة

خالد العمراني

 

عرفت  التجربة الحزبية المغربية منذ فجر الاستقلال حضورًا نوعيًا لقادة وطنيين حملوا همّ بناء الدولة الحديثة، وربطوا النضال الحزبي بالمصلحة الوطنية العليا.

لقد كانت السياسة قيمة أخلاقية ومشروعًا جماعيًا، يتجسد في شخصيات من طينة علال الفاسي، عبد الرحيم بوعبيد، المهدي بن بركة، امحمد بوستة، محمد بنسعيد آيت يدر، محمد اليازغي، وعبد الرحمان اليوسفي، الذين جمعوا بين الفكر والمبدأ والمسؤولية، إذ كانت الاحزاب التي يقودونها مؤسسات  وطنية لا مجرد أدوات انتخابية.

غير أنّ التحولات التي شهدها المغرب خلال العقود الأخيرة كشفت عن تراجع خطير في جوهر القيادة الحزبية.

فالتعدد المفرط في الولايات داخل بعض التنظيمات، مثل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وهيئات اخرى ، أدى إلى جمود داخلي وتكلّس نضالي عطّل آليات التجديد الذاتي وكرّس منطق الشخصنة بدل المأسسة.

أصبح الحزب، في كثير من الأحيان، فضاءً مغلقًا على نخبة محدودة تستنزف رصيده التاريخي ورأسماله الرمزي  دون أن تضيف إليه، في وقتٍ يعرف فيه المجتمع المغربي دينامية متجددة ومطالب قوية بالإصلاح والعدالة والشفافية.

إنّ غياب الديمقراطية الداخلية واستبعاد الكفاءات  جعل الحياة الحزبية تفقد إشعاعها وتأثيرها.

فبدل أن تكون الأحزاب قوة اقتراحية ورافعة للسياسات العمومية، تحولت في بعض الحالات إلى عبء تدبيري إضافي على الدولة؛ إذ لم تعد تفرز نخبًا قادرة على مواكبة تحديات المرحلة، ولا قيادات تمتلك رؤية إصلاحية تؤطر وتواكب التحول الاجتماعي.

فحين تغيب الكفاءة والصدق، يتحول العمل الحزبي إلى تكلفة مؤسساتية دون مردود سياسي أو تنموي، فتتراكم الأجهزة ولا تنتج القيمة المضافة المرجوة.

إنّ القيادات التي فقدت المصداقية، ولم تعد تحمل مشروعًا وطنيًا واضحًا، لا يمكنها أن تكون وسيطًا حقيقيًا بين الدولة والمجتمع.

بل إنها تساهم في إضعاف الثقة في المؤسسات وإفراغ العملية السياسية من مضمونها، عندما تختزل الممارسة الحزبية في منطق الحسابات الانتخابية والمواقع الظرفية.

وتستغل ازمة النسق السياسي الوطني  للمتاجرة في العمليات الانتخابية واستقطاب ذووي النفوذ المالي والاقتصادي على حساب المناضلين والطاقات الوطنية .

وفي هذا السياق، يظل من الضروري أن يستعيد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وغيره من الأحزاب ذات المرجعية التقدمية، روحها النضالية التاريخية، وأن ترفض أن تتحول إلى مجرد “دكاكين سياسية” أو ملحقات لأحزاب اليمين.

فالحزب التقدمي يجب أن يبقى ضميرًا مجتمعيًا حيًا، حاملاً لمشروع فكري واضح، وقادرًا على استقطاب النخب الجديدة وفتح آفاق سياسية بديلة تعكس حيوية المجتمع وتطلعاته نحو الإصلاح والديمقراطية.

إنّ المستقبل الحزبي في المغرب لن يُبنى بالولاءات، ولا بفبركة الديمقراطية القائمة على الغش والتدليس التنظيميين ،  أو الخطابات الجوفاء ، بل بــالقيادة المسؤولة، الديمقراطية الداخلية، وتجديد النخب، لأن السياسة في أصلها ليست مهنةً لتدبير المواقع، بل رسالة لبناء الدولة والمجتمع معًا.