يحكى في التراث أن رجلا استأجر حمارا لينقل سلعة من القرية إلى السوق. وبعد أن اشتدّ الحر، جلس المستأجر تحت ظل الحمار. هنا انفجر صاحب الدابة صارخا،
أنت استأجرت الحمار لا ظله.
ورد عليه المستأجر،
بل استأجرت منفعة الحمار كاملة، وظله جزء منها.
تحول الخلاف الصغير إلى لغط وصياح، وتعالى صوت الإتهام فوق صوت العقل. وبينهما وقف الحمار حائرا، ثم ارتبك، فرمى السلعة، وانطلق هاربا، فضاعت البضاعة وضاع الحمار معا.
هذه القصة القديمة تصلح اليوم مرآة صافية لما يقع في الجسم الصحافي المغربي. المشهد نفسه يتكر، فقط تغيرت الشخصيات، أما الفكرة فواحدة، نزاع حول الظل بينما الأصل يضيع،هذا لايعني بأي حال من الأحوال ظلم الصحفيين وسحب بطائقهم دون أي جرم.
اليوم تنفجر التسريبات من داخل لجنة الأخلاقيات التابعة للجنة المؤقتة لتسيير قطاع الصحافة- التي انتهت صلاحيتها في أكتوبر الماضي- أعضاء يخرجون ليكشفوا، وآخرون يخرجون ليردوا.
سجال مفتوح يعلو فوق كل شيء، في الوقت الذي يوجد فيه قانون خاص بالمجلس الوطني للصحافة معروض على الغرفة الثانية، دون أخذ بتوصيات مؤسستين دستوريتين، المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ودون الإصغاء لصوت النقابة الوطنية للصحافة المغربية، ومؤسسات نقابية أخرى، ولا لنبض المهنيين ولا للحقوقيين ولا للفاعلين في الحقل الإعلامي.
والأهم أن التسريب الذي خرج من لجنة الأخلاقيات لم يكن حادثا عرضيا، بل كشف في العمق ما يحاك ضد الجسم الصحافي برمته.
فقد بين بالملموس طبيعة المشروع المحال على الغرفة الثانية، وهو مشروع يراد له التحكم والتغول وإخراس الصحافة، وجرها إلى فضاء محدود بلسان واحد لا قدرة له على ممارسة الأدوار المتعارف عليها عالميا. مشروع يمهد لهيمنة الباطرونا، أو "جزء مؤثر منها"، على المجال الإعلامي، حتى يصبح الصوت الصحافي انعكاسا لرؤية زعماء جدد يخدمون مصالح الباطرونا دون الصحافيين المهنيين، وقبلهم المجتمع المغربي، بينما من المفروض أن يكون مكان هؤلاء هو الاتحاد العام لمقاولات المغرب في الغرفة الثانية وخارجها.
فبدل أن تكون الصحافة قوّة رقابية مستقلة قادرة على فضح تضارب المصالح وكشف الفساد وتعرية سوء التدبير، يراد لها أن تكون أي شيء ما عدا أن تكون صحافة حرة ونزيهة تنتصر لأخلاقيات المهنة وتصون كرامة الصحافيين وباقي العاملين بها.
لقد كان التسريب نافذة أطل منها الرأي العام على النفق الذي يراد للصحافة أن تسير فيه. تسريب واحد أسقط ورقة التوت، وأظهر من يريد احتكار ظل الحمار، لا الدابة فقط، والتحكم في مخرجات المهنة وتوجيهها بما يناسب نفوذ الأقوياء لا حاجة المجتمع.
المؤسف أن ضجيج التسريبات وردود أفعال البعض والاتهامات المتبادلة يشبه ذلك الهرج الذي جعل الحمار يفر مذعورا. فوسط الصراع حول من له الحق في الظل، يكاد يضيع أصل الموضوع، الصحافة نفسها، واستقلاليتها، وأخلاقياتها، وكرامة المهنيين داخلها.
لقد صار واضحا أن الصراع لم يعد يتعلق بتحسين أداء الهياكل، ولا بضمان نزاهة القرار المهني، بل تحول إلى معركة نفوذ داخل لجنة مؤقتة يفترض أنها جاءت لتصحيح الاختلالات، فإذا بها تغذي اختلالات جديدة.
في القصة التراثية فر الحمار، وسقطت البضاعة، وبقي الرجلان يتخاصمان فوق فراغ.
وفي واقعنا، الخوف أن تفر الثقة، وتتساقط المكاسب، ونستيقظ على جسم صحافي ممزق، وقانون يولد مبتورا، ومشهد إعلامي يضعف في لحظة يحتاج فيها المغرب إلى قوة إعلامية حرة ومسؤولة.
الدرس الذي تمنحه الحكاية بسيط لكنه عميق، حين ننشغل بالظل، نضيع الأصل. وحين نغرق في الصراع، نترك الحقيقة تهرب مثل الحمار المذعور.






