قضايا

العلمانية ليست على نقيض الدين بل موقف محايد من الدين

إدريس المحمدي(أستاذ باحث)

 

 

اعتمدت في هذه التنبيهات على التصريح الخاطف الذي أدلى به الوزير أحمد التوفيق في جلسة الأسئلة الشفهية بمجلس النواب، وعلى التوضيح الأوسع الذي قدمه جوابا عن سؤال أحد المستشارين عند مناقشة ميزانية الوزارة يوم 26 نونبر 2024.

التنبيه الأول، وهو موجه إلى الوزير التوفيق نفسه لبيان أن الإلقاء بمفهوم “العلمانية” وهو مفهوم خطير حساس على قارعة الطريق في لمح البصر، تصرف كان من شأنه أن يثير ردود فعل بناء على ما هو غير مستغرب من اختلاف الإدراك والمقاصد والنيات.

التنبيه الثاني، ومفاده أنه لا يستغرب أن يؤدي عدم الاحتياط الذي وقع إلى سوء الفهم وإلى إتاحة فرص التأويل في كل اتجاه وكأن رأيا سيحول هوية المغرب التي قضى هذا الوزير أعواما في خدمتها؛

التنبيه الثالث إلى أنه لا يخفى عن الوزير موقعه في بورصة القيل والقال، ووجود أهل حسابات يترصدونه، على غرار ما واجهه في رمضان الماضي لما تكلم عن فوائد البنوك؛

التنبيه الرابع، ومؤداه أن جسم الإسلام، اليوم أكثر من أي وقت مضى، وبسبب عدد من الملابسات الجارية على الساحة الدولية غدا، مفرط الحساسية، يهول المخاطر عاطفيا وهو أقل استعدادا للتشخيص المتأني من أجل العمل على العلاج؛

التنبيه الخامس إلى أن الفهم الذي يتبادر إلى كثير من الأذهان عند ذكر “العلمانية” هو أنها على نقيض الدين؛ بينما هي في الحقيقة في أصلها موقف محايد من الدين في مستوى الحياة العامة، أي العلاقة بين الدين والدولة.

التنبيه السادس إلى أن الوزير استشهد بحرية التدين وعدم الإكراه وبالحرية عامة، وهو مبدأ أصيل في الكتاب والسنة؛ ولكن هذا المبدأ ربما ظل معياريا في فكر المسلمين واعتقادهم، حتى أصبح واقعا في سياقات التطورات التي فرضها التاريخ الغربي وهو يمارس العلمانية على مستوى النظام العام. وقد اقتبس المسلمون بكيفية تلقائية مؤسسات هذا النظام وآلياته ومراجعه؛ لأن كثيرا منها يتوافق مع مبادئهم في “الشورى” وفي “العدل” و”الحق” و”الحسبة”، وهي مبادئ نافح عنها المسلمون في كل البلدان على امتداد تاريخهم؛

التنبيه السابع إلى أن العقل الذي تعتمده العلمانية مرجعا في توجيه الحياة لا يتنافى مع الوحي بالنسبة للمسلمين؛ ولكن المسلمين لا يعتمدون على العقل وحده في تفسير الحياة؛

التنبيه الثامن إلى أن الدين يعطي معنى الحياة وأنها لم تأت من الصدفة: من أوجد الإنسان؟ ولماذا؟ وما هو مصيره؟، أما العلمانية فإنها ترجئ هذا السؤال أو تتحاشاه لأنها تستبعد ما تسميه بالميتافيزيقا.

التنبيه التاسع إلى أن النظام المغربي مبني في علاقات الحكم على التعاقد (البيعة)، وقد سبق تاريخيا “الحركة العلمانية” إلى هذا المفهوم الأساسي في تصور السياسة؛

التنبيه العاشر إلى أن حماية الدين في النظام المغربي تأتي في كل مظاهرها استجابة للحاجة الاجتماعية الأولى لدى المسلم (أن يجد أميره الذي يجمع بين شؤون الدين وشؤون الدنيا، وأن يجد المسجد والإمام والواعظ ومختلف أنواع التيسير في أداء جميع العبادات…). والحاجة إلى الدين حاضرة بإلحاح عند المؤمنين بمختلف الديانات في البلاد العلمانية؛ ولكن الموقف العلماني، لاسيما في بعض البلدان، لا يعترف بهذه الحاجة ولا يلبيها؛

التنبيه الحادي عشر إلى أن الوزير لعله إنما أراد أن يقول، على الجملة، إن من يؤمن بالله وباليوم الآخر وينعم في عصرنا بالحرية وبإعمال العقل متجليا في حياة المؤسسات العصرية يجمع بين ثمرات العلمانية وبين الفهم السليم المقنع للوجود عبر الإيمان؛

التنبيه الثاني عشر إلى أن معظمنا قادرون على فهم أحسن ما عند الآخرين؛ ولكن معظم الآخرين لا يريدون أن يفهموا أحسن ما عندنا، لأنهم ينعتون حياة المسلم المؤمن بالغيب على أنها خنوع واستسلام، كما يشير إلى ذلك سيل من الكتابات منها الكتاب الذي صدر عن الإسلام في السنوات الأخيرة بفرنسا بعنوان Soumission) (؛

التنبيه الثالث عشر إلى أن بعض القوم عندهم وعندنا لا يلتزمون ب “الحياد” الذي هو الأصل في العلمانية؛ بل يتصرفون بنزعة أصولية لمعاداة الدين ومحاربته، فكما أن هناك أصولية دينية هنالك أصولية علمانية؛

التنبيه الرابع عشر إلى أن التنافس الشريف المطلوب عند المتدين وعند العلماني هو التنافس في الأخلاق، وهنا يتعين الحرص على أن تكون البلاد المنتسبة إلى الدين أكثر تبريزا في هذه الحلبة، حلبة الأخلاق، وبهذا البرهان، لو تحقق، تنتهي الإشكالات النظرية لهذا النقاش؛

التنبيه الخامس عشر إلى أن معظم الدول الغربية اليوم علمانية على مستوى السياسة العامة، ولو كانت دينية غير علمانية ولها التفوق العسكري الذي لها لراودتها أحلام صليبية، ولو أذعنت لهذه الأحلام لقضت بالعنف على الإسلام وأهله في المشارق والمغارب (إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم).