فن وإعلام

مصداقية المجلس الوطني للصحافة تقاس بمدى استقلاليته

الطيب دكار (صحفي وكاتب)

 1- استقلالية الصحفيين

من خلال استعراض الأنظمة الأساسية للعديد من نقابات الصحفيين واتحادات الصحافة في مختلف بلدان العالم الحر، يتجلى أن الانشغال الأساسي لهذه المنظمات كان ولا يزال هو الدفاع عن حرية التعبير واستقلالية الصحفيين عن السلطة وقوة المال.

وهذه الروح سادت أيضا عند إعداد مواثيق أخلاقيات الصحفي المحترف من أجل تحديد معالم المهنة وحصر ولوجها للصحفيين المحترفين الذين يستوفون شروط الإنتماء لهذا الجسم المهني الذي له خصوصياته.

ونسوق ، في هذا الصدد ، مثال مجلس أخلاقيات الصحافة والوساطة في فرنسا 

 الذي تأسس سنة 2019 ، والذي يتمثل هدفه الأساسي في التحكيم والوساطة في النزاعات، سواء بين الصحفيين والناشرين، أو بين الصحفيين والجمهور، وإصدار بطاقات الصحافة وإعطاء التراخيص للصحفيين المحترفين والناشرين .

وهذه الدوافع هي نفسها ، تقريبا ، التي كانت وراء إنشاء المجلس الوطني للصحافة في بلادنا.

غير أن المجلس الفرنسي لأخلاقيات المهنة لم يكن له أبدا طموح "حماية المجتمع" ، التي هي من اختصاص السلطات العمومية. وهذا لم يكن أيضا ضمن نوايا المشرع المغربي عند إعداد القانون المحدث للمجلس الوطني للصحافة، كما يتجلى ذلك بوضوح في المادة الأولى من الظهير المنشئ للمجلس.

  2 - تشكيلة ثلاثية للمجلس 

هناك اختلاف أساسي بين مجلس الصحافة في المغرب ومجلس أخلاقيات 

الصحافة والوساطة في فرنسا . فهذا الأخير لا يتلقى تمويلاً عمومياً مباشرا من الدولة ، وذلك لضمان استقلاليته ، إذ يتم تمويله من خلال موارده الذاتية (مساهمات الأعضاء، والإعانات المقدمة من السلطات العمومية ، شريطة عدم تجاوز إعانة السلطات العمومية عتبة 50 في المائة من الميزانية السنوية، مختلف أنشطة المجلس).

الاختلاف الأساسي الأخر بين المجلسين هو أن المجلس الفرنسي يعتمد في تسييره على مجلس إداري ثلاثي الأطراف ، يضم هيئات الصحفيين المحترفين والناشرين والجمهور (جمعيات القراء، ونوادي الصحافة، وغيرها)، مع تمثيل متساوٍ داخل مجلس إدارة هذه الهيئة.

وإضافة إلى ذلك ينأى هذا المجلس بنفسه عن التدخل في الخط التحريري للصحف والناشرين ، لأن ذلك شأنها . ولا يمكن أن يتم التدخل إلا بعد النشر. 

ويضم المجلس الفرنسي في عضويته، بصفتهم ممثلين للجمهور، محامين وجمعيات تعمل على الدفاع عن مصالح الجمهور وتعرب عن رغبتها في الانضمام إلى هذا الهيئة المهنية . ويحرص المجلس ، بطبيعة الحال ، على أن تكون عضوية الصحفيين طبقا للقانون الأساسي للصحفي المحترف الذي يخضع لقانون الشغل، بعد فشل عدة محاولات لإقرار وضع خاص للمهنة.

 ويتألف المجلس الفرنسي لأخلاقيات المهنة والوساطة من ثلاث هيئات متساوية (الصحافيين المحترفين والناشرين والجمهور)، الذين ينضمون بحرية إلى هذا المجلس، الذي ينظم توزيع الأعضاء الجدد حسب الهيئات ، على أساس الخلفية المهنية لكل طرف. أما تسيير المجلس، فلا يتطلب أكثر من رئيس يساعده كاتب وأمين للمال. ويعتبر جميع أعضاء الهيئات الثلاث، بواقع تسعة أعضاء لكل هيئة ، مستشارين أعضاء في المجلس الإداري.                            

3 - الاستقلالية ضمان للمصداقية

إن إنشاء هذا الهيكل التمثيلي المستقل عن السلطة، سواء سلطة الدولة أو سلطة المال، يلقى التشجيع ، في كافة بلدان أوربا ، من طرف الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر وجود هذه الهيئة إحدى ركائز الديمقراطية.

إن الهندسة التنظيمية لهذا المجلس تشكل في حد ذاتها مصدرا وضمانا لمصداقية الصحفيين والناشرين أمام الجمهور الذي يمكنه أن يطلب وساطة وتحكيم المجلس في خلافاته مع الصحافيين .ويصدر المجلس رأيه ، الذي يتم نشره ، في أقصى الحالات ، في الصحيفة أو المنبر الإعلامي المعني . ويحق للمجلس أيضا ، النظر من تلقاء نفسه ، في النزاعات التي تصل إلى علمه.

ومن شأن هندسة المجلس هاته ، تعزيز الثقة بين الصحفيين والجمهور الذي يعد المتلقي الرئيسي لما يكتبه الصحفيون وينتجه الإعلام السمعي البصري.

إن مصداقية مجلس الصحافيين تقاس بمدى استقلاليته عن السلطة وقوة المال. ولا يمكن لمجلس "إداري" ، مثل مجلس الصحافة في المغرب الذي تدفع الدولة رواتب أعضائه وتمول تسييره ، أن يدعي الاستقلالية.

إن هندسة المجلس، في نسخته المغربية، على الرغم من أنها كانت سابقة لإنشاء اتحاد الأخلاقيات الفرنسي، تنص على هيئتين (صحافيين وناشرين)، وبذلك لا تستجيب للانتظارات والأهداف المرجوة من المجلس، بسبب تغييبها لهيئة الجمهور الذي يتلقى منتوج الهيئتين الأخريين اللتين ينبغي بالضرورة أخذ رأيها بعين الاعتبار.

4- ألمجلس الوطني للصحافة في صراع مع المنظمات الدولية للصحافيين

هناك خلل آخر يشوب المجلس المغربي وهو يهم الاختصاصات. فالمجلس ، في نسخته المغربية ، أخذ على عاتقه ، بالإضافة إلى الوساطة وإصدار بطاقات الصحافة، الرد على التقارير الدورية الصادرة عن المنظمات الدولية للصحفيين، وخاصة منظمة "مراسلون بلا حدود" ، والتصدي لاستنتاجاتها حول وضعية حرية الصحافة في المغرب.

وأعتقد شخصيا أن هذه المهمة ليست من اختصاص المجلس الوطني للصحافة ولم توكل إليه بموجب الظهير الذي أنشأه ، وعلى العكس من ذلك ، شجع المشرع المغربي المجلس على تطوير علاقاته مع المنظمات المهنية المماثلة في الخارج.

فبدلاً من الانفتاح على المنظمات الصحفية الدولية لمناقشة مآخذها على بلادنا من أجل إقناعها بالتقدم الذي يحققه المغرب في مجال حرية الصحافة ، يتبنى المجلس منطق القطيعة، ويتهم زملاءه الأجانب بالكذب والتحيز، وهو الأمر الذي لن يؤدي ، بأي حال من الأحوال، إلى نتيجة. فهذه المهمة هي من اختصاص السلطات العمومية ، ولاسيما وزارة الشؤون الخارجية ووزارة الاتصال .

كان المأمول ، في رأيي المتواضع، أن يعمل المجلس الوطني للصحافة، الذي تشكل في ظروف غاب عنها التوافق داخل المهنة، على إقامة روابط التعاون والشراكة والتبادل مع المهنيين في مختلف أنحاء العالم. وهنا تبدو أهمية وجود "مجلس مستقل" قادر على فتح قنوات الحوار مع شركائه الدوليين، لشرح وضعية الصحافة في المغرب. وبدل ذلك فضل المجلس أن يحل محل السلطات العمومية في مهمة الرد على المنظمات المهنية الدولة ، وهي المهمة التي كانت تقوم بها هذه السلطات لسنوات.

هل فكرنا ، عند إنشاء المجلس الوطني للصحافة ، في تنظيم وهيكلة هذا القطاع، لنجعل من الصحافة في بلادنا رافعة قوية ومؤثرة، تعزز مصداقية الصحفيين المغاربة في الخارج وتضمن استقلاليتهم على غرار زملائهم في أوربا ، أم على العكس من ذلك، فكرنا في إنشاء أداة للرد بشكل دوري على التقارير الصادرة عن الاتحادات الدولية وعلى الكتابات السلبية للصحافة الأجنبية.

منطقيا ، كان من الضروري ، من أجل إقناع المنظمات الدولية ، اعتماد مقاربة أخرى تتمثل ، في المقام الأول ، في تعزيز حرية التعبير في بلادنا وإنشاء هيكل "مستقل " قادر على أن يكون محاورا " يحظى بالمصداقية " على المستوى الدولي.