فن وإعلام

رحلتي مع الصحافة (7): مبادئ المهنية..

يونس الخراشي ( صحفي)

تعلمت في معهد الإعلام على يد أساتذة من الطراز الرفيع. كانوا، في الغالب الأعم، ينتمون إلى المجال الإعلامي. ومن ثم، فقد كان الجانب التطبيقي طاغيا، وكانت النقاشات حامية، وتفضي باستمرار إلى تنوير يمس جميع الطلبة، ويضعهم في "مطبخ الصحافة"، حتى وهم لم يدخلوا عوالمها بعد.

كان أساتذتنا، مشكورين، يؤكدون بأن أهم شيء في الصحافة هو المهنية. ويعنون بها الالتزام بالمبادئ التي تقوم عليها كتابة (تصوير، وتوضيب، تسجيل) الخبر، على أن تكون اللغة سليمة، وبسيطة، ويبنى الخبر نفسه على التاوزن، بحيث لا تطغى جهة على حساب الأخرى، بما أن الصحافي "وسيط" بين جهة الإرسال والمرسل إليهم.

كنا نتخذ لنا، في دروسنا، نماذج من الواقع، نشتغل عليها. وهكذا، كانت بعض المقالات، في الصحافة الوطنية والدولية، ومواد إعلامية في وسائط غير مكتوبة، تشكل مصدرا للنقاش، ومن ثم التعلم. وكانت نماذج أخرى تشكل، بطريقتها غير المهنية، أو غير الصحفية، وهو الأصح، درسا لنا أيضا، بحيث نعرف، من خلالها، ما لا يتعين فعله، أو تقليده.

في تلك الفترة زادت صلتي بالصحف أكثر مما كانت عليه من قبل. وكنت، رغم العوز المادي، أقتني يومية الشرق الأوسط، لكي أطالعها، فأرى كيف تبوب المادة الإخبارية، وكيف تقسم إلى أجناس، بين خبر، وتقرير، وحوار، ورأي، وافتتاحية، وأعمدة، وغيرها. فقد كانت، رغم الاختلاف مع بعض توجهاتها، مهنية بامتياز من الناحية الأكاديمية، وتقدم الحد الأدنى المفترض في صحيفة إخبارية.

في نهاية السنة الأولى من الدراسة؛ صيف سنة 1996، ستتاح لي الفرصة، أخيرا، كي أدخل صحيفة "الاتحاد الاشتراكي"، التي تتلمذت على يديها من بعيد، وارتبطت بها لسنوات، من خلال الوالد رحمه الله، ومحيطي الضيق، وأيضا من خلال الأب الثاني، عيسلا بقلول الحياني. كانت إدارة المعهد قد ابتعتثني لأجتاز تدريبا ميدانيا هناك، لمدة شهر كامل. 

كانت البداية مهيبة للغاية. لم يكسر من مهابتها إلا معرفتي ببعض العناصر، ممن جالست في محل عيسى الحياني. وساعدني ذلك في اكتساب ثقة الجميع، بحيث صرت، بمرور الوقت، أتجول بين الطبقات، وبين الأقسام، وأكسب المعارف تلو الأخرى بسهولة. 

بدأت التدريب المهني من قسم التصحيح. وكان يضم جيشا من المدققين اللغويين، يقاودهم شخص اسمه العباسي. وكان طيبا للغاية، وصامرا في التدقيق. تعلمت منه الحرص على مراقبة الأوراق بتركيز شديد، والوقوف على الأخطاء، حتى تصل الجريدة إلى المواطنين نقية، وبصفر ملاحظة في الجانب المتعلق بالنحو والصرف والإملاء.

في مرات كثيرة، وكنا ننتهي تماما من التصحيح، وتلوح لنا فسحة، ينطلق في الحديث عن أشياء لها صلة بالحزب، والجريدة، فأصمت تماما، لأكتسب منه معارف قد لا يتاح لي أبدا اكتسابها. وأذكر هنا أنه حكى لي عن الباهي، رحمه الله، وكيف سهل له الإقامة بالجزائر في ظروف صعبة. وقال لي:"ذلك الرجل لم يكن يتوقف عن القراءة. أمره عجيب. كنت أقيم عنده في بداية وجودي بالجزائر، حين استيقظت ليلا، فإذا بي أجده يمسك بكتاب. سألته، هل ما زلت تقرأ؟ قال لي إن البطن تجوع فنشبعها بالطعام، والعقل أيضا يجوع، ويحتاج منا إطعامه. إنه رجل استثنائي بحق".

في الطابق الأول من الجريدة، حيث كانت هيئة التحرير، بأسماء وازنة جدا، ضمنها، مثلا، عبدالحميد بنداود، ومصطفى العراقي، وحسن نجمي، والمهدي الودغيري، ومحمد جبران، ومحمد خيرات، وعبدالقادر الحيمر، وعبدالرزاق مصباح، ومحمد نبزر، ومحمد بهجاجي، فضلا عن المايسترو، صاحب النكتة السيالة، الكاريكاتيريست الشهير، حمودة، يرحمه الله، وكذا الدكتور عبدالقادر وساط، أو أبوسلمى، صاحب الكلمات المسهمة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس لسنوات (كان الأخ والزميل عبدالحميد الجماهري يحضر ويغيب، بفعل اشتغاله بالتعليم في تلك الأثناء)، وجدتني في عالم مثير.

بدأت أسبوعي الأول من قسم المجتمع. كلفني المرحوم المهدي الودغيري بمهام متعددة، ضمنها على الخصوص استقبال ذوي الشكايات، الذين كانوا يفدون على الجريدة، كي أنصت إليهم، وأسجل شكاياتهم، وأحصل منهم على وثائقهم، ثم أحرر المادة، لترتب مع أخواتها، في انتظار النشر. وكانت مواد المجتمع كثيرة جدا، لولا أن الودغيري كان استثنائيا في الترتيب، وبأناقة لا مثيل لها. 

لم يكن يمر يوم دون أن نناقش مادة أدبية، بين زجل وقصة ورواية. وفي مرة، اسر لي المرحوم لأنه كتب مسرحية، ثم سلها، مثل شيء ممنوع، من محفظته، وشرع يقرأ علي بعض فصولها. ثم أعادها إلى المحفظة، وقال لي إنه يعدها للطبع. ومسد شاربه الكثيف، وضحك، كعادته عندما يشعر بأنه حقق نصرا مبينا.

في الأيام التالية، اشتغلت مع الصحافيين الآخرين، كل في مادته. غير أنني نشطت أكثر في القسم الثقافي والفني. وأذكر أنني قدمت بورتريه للأستاذ حسن نجمي، الذي أعجب له، وخصص له مكانا في الصفحة الأخيرة، وما أدراك ما الصفحة الأخيرة لجريدة الاتحاد الاشتراكي. وكان، هذه المرة، موقعا باسمي كاملا؛ أي أن والدي، رحمه الله، كان ليفخر كثيرا بذلك. 

كان البورتريه، وأذكره إلى اليوم، بعنوان:"يبني القصور ويسكن في غرفة". ويحكي قصة رجل فقير جدا، يسكن بحي البرنوصي، ويعيش بالفعل في غرفة. وكان الرجل يبيع السجائر بالديطالي، ويصنع قصورا من أعواد الثقاب التي يبريها واحدة واحدة، في عمل شاق جدا، ولكنه ينتهي إلى منتوج مبهر للغاية.

مرت أيامي بالجريدة سريعة جدا. أو هكذا تصورتها. قيل لي إن فترة التدريب انتهت في الوقت الذي شعرت فيه أنني بدأت أجد لي مكانا حقيقيا بين زملاء علموني الكثير، وصارت صورتهم الآن مضبوطة في ذهني، بعد أن كانت مجردة في السابق.

اقترح علي والدي رحمه الله، بعد تلك الفترة التدريبية، أن اسافر إلى "البلاد"، ضاحية أولاد برحيل. وسافرت. هناك بالضبط سأكتشف أن البورتريه نشر بالفعل. وكان يوما لا ينسى، رغم الحر المضني في وسط غرفة طينية بقرية أولاد ادريس النائية، بعيدا جدا عن الدار البيضاء.

__

(في الصورة: المرحوم المهدي الودغيري).