فن وإعلام

مذبحة احترافية من دون سفك دم!

عبد الرحيم التوراني

       أهلًا بكم في ساحة "النقاشات المقدسة"، حيث لا تكون الجدية هي الهدف، بل السخرية والكوميديا الممزوجة بالدموع (المأساوية بالطبع).

كنت أعددتُ نصًا للرد على "خطبة الجمعة" للسيد عبد الله البقالي... هذا "المؤمن النقي"، أو "التقي الورع الطاهر"، الذي لم يكتفِ ببث خطبته في يوم فضيل، بل اختار أيضًا أن يبثها في وقتٍ روحانيٍّ مبارك، يتزامن مع خطبة الإمام وصلاة الجمعة...

يا لها من تقوى رقمية وروحانية تكنولوجية... أراد الرجل أن تكون رسالته "صوت الحق" موازيًا لصوت المنبر، ليتمكن جمهورٌ كامل، ربما فاتته الصلاة أو لم يجد منبرًا للاستماع إلى الخطبة، من متابعة بثه الإلكتروني...

 غير أن توأمه الروحي والعملي، يؤنس مجاهد، لم يسمح للبقالي بالسيطرة على الأجواء الروحية وحده.. فلم يأتِ ردّه المدوّي على قرينه في يوم عادي، بل في يوم أحد، والتوقيت صلاة العصر!!!

ربما كان ذلك إشارةً خفيةً إلى دعمه "للوحدة الروحية" بين الأديان، أو ربما ببساطة لأن يوم الجمعة قد أُغلق... يا له من انسجامٍ رائع بين هذين المؤمنين... لولا أنهما من "الذين هم عن اللغو غير معرضين"... وهذه "اللولا" تحولت إلى "لُولَة" في مثل عامي يقول: "حتى زين ما خْطاتو لُولًة".. وهناك من يتمادى ويزعم بأن "اللُّولة فيها وفيها" الله يسترنا من دار العيب...

إلا أنه لمعت في ذهني لمحة حكمة... عندما أدركتُ الحقيقة المرة بعد انتهائي من تحرير ورقتي.. أدركت أن الخوض في مثل هذا النقاش مضيعةٌ للوقت، وهزيمةٌ في لعبة شطرنج لا علاقة لها أصلا بالشطرنج...

نعم.. ماذا تريد منِّي أن أفعل؟ أن أسحب سيف الجدية لأقطع خيط العبث المتدلي من سقف واقع خيالي متوهم؟

هذا النوع من الكلام لا يُدحض بالمنطق والنقاش العقلاني، لأنه ببساطة يفتقر إلى كليهما.. بل الأجدى هو أن يُقابل بسخرية لاذعة، وبسخرية صريحة، وبهجاء ساخر مُر.

بما أنهما قدما لنا اسكيتش هزلي مشترك، فلا بأس من أن نحوّله إلى كوميديا سوداء ممزوجة بالمأساة..

يا له من كشفٍ مذهل.. ظننتُ أن أعداء الحقيقة سيفتحون لنا أبوابهم رافعين رايات بيضاء، كلٌّ منهم يرتدي قميصًا أصفر مطبوعة عليه عبارة: "أنا آسف، لقد ارتكبتُ كل الجرائم... أنا مجرمٌ كبير!!!"...

لكنهم لسوء حظنا... ابتكروا عبارةً جديدةً ومدهشةً، وأخبرونا أن "النجاح باهر في مهمتهم طيلة الأعوام السبع، لم تكن أعواما عجافًا... لكن فقط هناك بعض العيوب البسيطة".

 يبدو أن "الجريمة المثالية"، أو "الجريمة الكاملة" ليست سوى مشروع تجريبي واعد، لكن "كمالها" يعاني من "بعض عيوب التصنيع" التي سيتم تصحيحها في الحلقة القادمة... لذا فلننتظرها.. هي "مذبحة إبداعية رائعة" استخدمت فيها تقنيات "المونتاج النظيف"، حيث يتدفق الدم بغزارة وتتسع الجروح على الشاشة بدقة مذهلة،.. ولكن... لحظة ظهور المحقق، سنكتشف أن مسرح الجريمة نظيف تمامًا، كحلم طفل في ليلة عيد الميلاد... لا دم... لا إصابات أو جروح... ولا ضحايا؟

يا له من وهم بصري... كل تلك الدماء الغزيرة وتلك الجروح المتعفنة مجرد هلوسات من نسج خيال المشاهد المريض، الذي يستحق هو نفسه الذبح... ذبح مجازي بالطبع، للحفاظ على "شرف المهنة" المزعوم...

يا لسذاجتي لأصدق أن لغة الجريمة تقتصر على الصراخ والشتائم.. و"رمي الكراسي وقذف الصحون"...

يا لها من خيبة أمل... لم أكن أعلم أن المافيا هي مدرسة في رياضة وفن "الزن" الإجرامي... فلغتهم هادئة، باردة كقبر حُفر حديثًا في مقبرة مهجورة... لغة خالية من التعصب... هم لا يغضبون، بل يُخفون شرارة لهيبهم تحت طبقات سميكة من الابتسامات البراقة... ابتسامات جامدة... وخلف ضحكاتهم الرنانة مثل صوت زجاجٍ يتكسر، أو بالأحرى صوتُ ارتطام الكؤوس احتفالًا... لا أدري، ربما بنجاح عملية "التغياز" والتصفية المريحة...

وهنا نفهم عبقريةَ العضو المتحمس من "لجنة اللأخلاقيات"... يا لها من مفارقة... لأنه عندما نطقَ بكلمة "تشيطين"، لم يكن يقصد إطلاقَ العنانِ للشياطين، كما افترض البعض بسذاجة... حاشا.. معاذ الله... وسامحكم الله أيها المغفلين السذج...

"التشيطين" هو ببساطة الترجمة الحرفية للغة المودة والأخوة والتحية في طقوس إجرامية راقية...

هكذا يتبادل أعضاء المافيا مشروباتهم الثمينة بعد ارتكاب جرائمهم الدموية... عندما يختلف أعضاء المافيا، هل يتقاتلون؟ أبدًا... بل هم يختارون "جلسات حوار هادئة"...

يجلسون بهدوء تحت إضاءة ثريا من كريستال مستورد من إيطاليا (موطن المافيا).. يرتشفون شيئا ثمينًا.. يُصَفُّون الحسابات التي لم تتضمن جرعة كافية من الذبح أو القتل.. ثم يمضون بهدوء شديد لاستكمال الذبح والقتل والتصفية، كأنهم ذاهبون لجولة غولف...

*(أو "جُلْف"..رجاء، لتَسُدْ الروح الرياضية، ولتتجنبوا هنا أي معنى لكلمة "الأجلاف"، أي "الصلاكيط" بعاميتنا البليغة...).

بعد كل هذا الرقي في الإجرام، يلتفتون إلى ضحاياهم المذبوحين، يطلقون عليهم المواعظ:

(يا أيها الضحايا، من العار الإصرار على الانتقام وتصفية الحسابات.. يا له من تفوق أخلاقي.. لا يُطلب منكم إلا الفضيلة. أما نحن، فإن "الذبح الهادئ والمهني" جزء من "مواثيقنا الأخلاقية".. لا تنسوا أن الشماتة فعلٌ مرفوض في الديانات السماوية الإبراهيمية، وهو شكل من أشكال تصفية الحسابات، وهو ما ترفضه مواثيقنا الأخلاقية).

بعد أن تتم عملية "الحوار الهادئ" وتُسوّى "الحسابات الخاطئة"، لا بد من طقس التطهير الروحي، أو بالأحرى، تطهير الضمير الميت... مضمضة الكؤوس.. يلجأ أعضاء العصابة إلى لملمة خلافاتهم، ليس بـ"المصافحة" أو "الاعتذار"، بل بـ"مضمضة" ممهورة بكلمة السر "تشين.. تشين"!!! إنها ليست مجرد نخب، بل هي إعلان رسمي يقول: "تم غسل الأيدي من آثار الدماء بنجاح.. ولنستمر في العمل"...

أما أولئك التعساء الذين أعماهم صممهم واستقبلوا كلمة السر "التشيطين" بغير معناها... فندعو لهم بالمغفرة وشفاهم الله من عماهم وصممهم التام... أنهم لا يدركون عظمة الإنجازات العظيمة... يا لجهلهم الفادح... لم يروا كيف وصل الذبح الاحترافي إلى مستويات غير مسبوقة بفضل التكنولوجيا التي لا تراق فيها الدماء... وكيف تقوم اللجنة بتجفيف الأرض بأصحاب البدلات السوداء، (أي المحامون)... نعم، "اللجنة تجفف أحسن"، لا بالجفاء فقط من كل من تسول له نفسه أن "يمس بتماسك اللجنة المترابطة بوحل المصالح المشتركة!!!

يا لسذاجة البؤساء.. الذين لا يُقدرون قوة "اللجنة" الحقيقية، تلك القوة التي تتجاوز القنابل والرشاشات...

عفوًا، يبدو أن هناك خطأً تقنيًا في تصوراتكم... فاللجنة ليست مجرد "تريند عابر" أو "ضجة هامشية"، بل هي العمود الفقري للأحداث، وهي الضوء الساطع الذي لا ينطفئ... لذا، لُطفًا.. توقفوا عن "الهمهمة" التي تسمى تشهيرًا، فمكانة اللجنة المقعرة - عفوا الموقرة- أهم من أن تتأثر بهكذا زوبعة في فنجان...

إن ما لم يفهمه أؤلئك "الصم" هو ما يمكن إنجازه بكلمة بسيطة!!! نعم، كلمة واحدة فقط، خاصةً عند استخدام التعبير الفرنسي "un petit mot" (كلمة صغيرة). هذه "الكلمة الصغيرة" ليست مجرد تفصيل لغوي، إنها الزر الصامت الذي يُفعّل كل شيء، والمفتاح الذي يفتح أبواب الجحيم الصامت، ويُغلق ملفات بأكملها، أو يُرسل شخصًا لقضاء عطلة طويلة في قاع بحيرة بلا قاع...

كل هذا دون أن يرفع أحد صوته فوق الهمهمة الناعمة: "تشين... تشين"... لأن "اللجنة المؤقتة الدائمة" لا تغضب من كلماتها، بل تنفذها... في صمت تام...

يا له من سؤال ساذج.. هذا الذي يسأل: هل كنتَ تظنّ حقًا أن المتآمرين المحترفين، الذين يرتدون أقنعة الأخلاق ويتمايلون على إيقاع "تشين... تشين"، سيكونون وقحين وساذجين بما يكفي ليُسمّوا الأشياء بأسمائها؟

وهل كنتَ تظنّ حقًا أن المتآمر سيواجه ضحيته قائلاً:

(مرحباً أيها الضحية، أيها المستهدف... نود إبلاغك بأننا سننفذ اليوم عملية خبيثة تهدف إلى تشويه سمعتك، من خلال حملة استهداف ممنهجة وغير نزيهة.. استعد دون خوف أو اعتراض.. هيَّا...)...

لا.. وألف لا! هذا يتناقض تمامًا مع "النزاهة المهنية" التي تحدثنا عنها سابقًا، ومع "الإجرام المعقد" الذي يبررونه.

اللغة العربية (والفرنسية تحديدًا) مليئة بآلاف المرادفات والتعبيرات المخففة التي لا هدف لها إلا تجميل القبح، وإخفاء الاستهداف في عيون الهدف والضحية، من أجل "تجفيفها" والضحية يبتسم... وعندما تستخدم العصابة هذه المصطلحات، تتحول "المؤامرة" فجأة إلى عمل وفعل نبيل يهدف إلى "الحفاظ على المناخ الأخلاقي للجماعة"...

لن يقولوا: "نحن نتآمر ضدكم"...، بل سيقولون: "نحن نعيد النظر في آليات التضامن المتعلقة بقضيتكم، وهي خطوة ضرورية لتجنب الجمود الفكري...".

هكذا يكاد الضحية يفرح بعمليات "التَّغْياز" و"التجفيف" و"الاستهداف"، لأنها نُفِّذت "بمهنية" و"أخلاقية" برعاية واحتضان "التشيطين"... على نغمات "تشين.. تشين"!!!

وها هو المجتمع المدني، متحالفًا مع الصحفيين النزيهين، يرفع صوته مطالبًا بالقضاء على الثنائي المتآمر الخطير مع "لجنتهما" "المقعرة".. يطالب بأن يختفوا من المشهد... بالتوقف عن التمثيل في "اسكيتش الجمعة والأحد"، والعودة إلى مكانهم الطبيعي: العدم الإعلامي...

التوقف عن التآمر والاستهداف.. بإنهاء عمليات "تصحيح المسار" و"الهيكلة الجذرية للموارد البشرية" الساخرة...

وقف عمليات الذبح بلا دم، وإنهاء هذا "الإبداع الإجرامي الراقي" الذي يعتمد على تصفية الوجود دون بصمات سائلة...

إنهم يعتقدون أنهم نجحوا في جريمتهم تمامًا لأن ضحاياهم استنزفوا دماءهم، بفضل تقنية "التجفاف" الحديثة... ولكن للأسف... لقد غمرهم الثقل الرمزي والأخلاقي والمعنوي للدم... إنهم الآن يغرقون في محيط من العار الأخلاقي، أكثر كثافة ولزوجة من أي دم حقيقي...

وكلما حاولت لجنة "تشين... تشين" الملعونة (كما صار يسميها الناس) أن ترفع كؤوسها لتبادل الأنخاب أو الاعتذارات المغشوشة المزيفة، فإنها تشرب من هذا الوحل الأخلاقي الذي يحاصرهم جميعًا.

أنتم لم تجففوا ضحاياكم فحسب، بل جففتم ما تبقى من ماء وجهكم...

لم تُدمروا ضحاياكم فحسب، بل دمّرتم أيضًا ما تبقى لكم من كرامة ضئيلة...

سوف يختفي هؤلاء المتآمرون في النهاية، ليس بـ"كلمة صغيرة" (un petit mot) بل بصيحات السخرية المدوية التي ستحول مسرحهم التراجيدي إلى مجرد نكتة سيئة الذكر في تاريخ المهنة.

بالطبع.. هؤلاء لن ينسحبوا "بشرف"... وأي "شرف" بقي لديهم لنتحدث عنه؟

الشرف بالنسبة لهم هو إتقان عملية "التجفيف" والهروب دون أن يضيع قدح "تشين... تشين" واحد... أو رشفة صغيرة من دخان سيجارة إلكترونية "معسلة"...

الانسحاب الشريف يحتاج إلى عمود فقري أخلاقي، وهم للأسف، لديهم مجرد "عمود فقري متآمر" لا يعمل إلا بالريموت كنترول...

إنهم الآن في وضعية استعداد لـ"الفرار الأنيق"... لا يجرؤون على اتخاذ القرار بأنفسهم!!!

إنهم ينتظرون الإشارة... الكود السري ...un petit mot (كلمة صغيرة)...

بمجرد أن تصدر "الكلمة الصغيرة" من الجهة إياها (التي تزودهم بعقود "الذبح المهني" وتقول لهم متى يتوقفون)، سيولون الأدبار فورًا، في سباق محموم نحو النسيان...

ولكن الأجمل في هذا المشهد الهزلي هو مكافأة الوداع التي تنتظرهم...

ولحظة الفرار حانت وأزفت.. وقد ألصق التاريخ والمجتمع الساخر على قفا كل واحد منهم، ومع كل "الأعضاء" أو "الأعداء" في اللجنة - فهم في الحقيقة مجرد نسخ مكررة - العبارة الخالدة التي تلخص وجودهم:

"عَبَث وَتَوَلَّى".. عبثٌ ضد الحقيقة، وعبوسٌ في وجه الحقيقة، وَتَوَلَّى عن المشهد بمجرد صدور الأمر...

مذبحة احترافية من دون سفك دم!

يا لها من نهاية درامية كوميدية تليق بـ"مهزلة الأحد والجمعة".. إذ تحولوا من متآمرين يمارسون "الذبح المهني" إلى شخصيات كرتونية تُختتم مسرحيتها بهذه العبارة الساخرة...

"تشين... تشين" أيها الهاربون...

ساعتها يمكن "تجفيف" هذا الملف بالكامل بعد مغادرة أصحابه..